كائن بحجم حبة الأرز يهز قرية بالأقصر.. هل النمل الأبيض عدو صامت أم كنز علمي لإنتاج الطاقة النظيفة؟
في قرية الدير التابعة لمركز إسنا بمحافظة الأقصر، لم يتوقع أحد أن يتحول كائن متناهي الصغر، لا يتجاوز حجمه حبة الأرز، إلى مصدر رعب حقيقي يهدد البيوت ويعيد فتح ملفات علمية وبيئية شديدة التعقيد.
خلال أيام قليلة، انهارت ثلاثة منازل قديمة، بعدما نخرت جيوش من النمل الأبيض الأخشاب التي تستند إليها الأسقف، تاركة الجدران بلا عصب يحملها، في مشهد أعاد للأذهان خطورة هذا الكائن الصامت الذي يعمل في الخفاء.
النمل الأبيض والمنازل القديمة.. خطر إنشائي صامت
كيف ينهار البيت دون إنذار؟
أكد شهود عيان من القرية، في تصريحات لعدة مواقع صحفية، أن انتشار النمل الأبيض داخل المنازل القديمة أدى إلى التهام العناصر الخشبية الأساسية في الأسقف، ما تسبب في إضعاف البنية الإنشائية للمنازل، وانهيارها المفاجئ دون وقوع إصابات بشرية.

ورغم أن الحادثة مرت دون خسائر في الأرواح، إلا أنها زرعت الخوف في نفوس الأهالي، وسط مخاوف من تكرار السيناريو نفسه في منازل أخرى تعتمد على:
-
الأخشاب في التسقيف
-
الطوب اللبن والطين
-
غياب الصيانة الدورية
أسئلة قديمة تتجدد من جديد
أعادت الواقعة إلى الواجهة تساؤلات طالما شغلت سكان القرى القديمة:
-
كيف يستطيع النمل الأبيض إسقاط منازل كاملة؟
-
لماذا ينتشر بقوة في القرى الريفية؟
-
هل يشكل تهديدًا حقيقيًا للمباني المبنية بالطوب اللبن؟
-
ولماذا يصعب اكتشافه قبل فوات الأوان؟
لكن المفارقة الكبرى أن هذا “العدو الخفي” نفسه، المتهم بتدمير البيوت، يقف اليوم في قلب أبحاث علمية متقدمة بوصفه أحد أكثر الكائنات الواعدة في إنتاج الطاقة النظيفة.

من الخراب إلى المختبر.. الوجه الآخر للنمل الأبيض
في دراسة علمية حديثة نُشرت في مجلة Environmental Chemistry and Ecotoxicology، كشف فريق بحثي دولي يقوده الدكتور سامح علي، الباحث المصري بمعهد الوقود الحيوي بكلية هندسة البيئة والسلامة في جامعة جيانغسو، أن السر الحقيقي لقوة النمل الأبيض لا يكمن في فكيه، بل في أمعائه.
السر في الأمعاء لا في الفكين
أوضحت الدراسة أن جهاز النمل الأبيض الهضمي يحتوي على كائنات دقيقة مذهلة، وعلى رأسها الخمائر، تمتلك قدرات استثنائية على:
-
تفكيك المواد العضوية المعقدة
-
تحليل مركب اللجنين شديد الصلابة
-
تحويل نواتج التحلل إلى مركبات نافعة
واللجنين هو المادة التي تمنح الخشب صلابته، وتجعل تحلله الطبيعي في البيئة عملية بالغة الصعوبة.
لماذا تنهار البيوت الخشبية؟

بفضل هذه الخمائر، يستطيع النمل الأبيض:
-
تفكيك الأخشاب الحاملة للأسقف
-
إضعاف الدعائم الأساسية للمنازل
-
العمل بصمت لسنوات دون ملاحظة
وهو ما يجعل المنازل القديمة في القرى أكثر عرضة للانهيار المفاجئ، خاصة تلك المشيدة بالطوب اللبن والمسنودة بعروق خشبية قديمة.
وقود نظيف من قلب المشكلة
من تهديد بيئي إلى حل مستدام
المثير في الدراسة أن خمائر أمعاء النمل الأبيض لا تكتفي بتكسير الخشب، بل تستطيع:
-
تحويل نواتج التحلل إلى دهون حيوية
-
استخدام هذه الدهون في إنتاج الديزل الحيوي
والأكثر أهمية، أن هذه الخمائر قادرة على التعامل مع:
-
مخلفات صناعية شديدة السمية
-
الأصباغ الآزوية الناتجة عن مصانع النسيج
-
مخلفات اللجنين من صناعات الورق والزراعة
وهي نفايات تُنفق الدول مليارات الدولارات سنويًا للتخلص منها بطرق مكلفة وملوثة للبيئة.
أمعاء النمل الأبيض.. مصنع بيولوجي فريد
يشرح الباحثون أن أمعاء النمل الأبيض:
-
بيئة خالية من الأكسجين
-
غنية بإنزيمات نادرة مثل:
-
اللاكاز
-
البيروكسيداز
-
-
قادرة على تفكيك جزيئات تعجز عنها بكتيريا وفطريات كثيرة
وهذه المنظومة الطبيعية هي ما يجعل النمل الأبيض آلة هضم خشب خارقة، وقد تمثل مستقبلًا حلًا ثوريًا لتحويل النفايات إلى طاقة.
تحديات أمام الحلم العلمي
رغم التفاؤل، تحذر الدراسة من تحديات كبيرة، أبرزها:
-
انخفاض كميات الدهون المنتجة حاليًا
-
صعوبة التوسع الصناعي
-
حساسية الخمائر للمواد السامة
الحلول المقترحة
يقترح الباحثون:
-
التعديل الوراثي بتقنيات كريسبر (CRISPR)
-
تصميم مفاعلات حيوية متعددة المراحل
-
شراكات حقيقية بين الجامعات والصناعة
وزارة الزراعة: النمل الأبيض ليس المتهم الوحيد
على الجانب الآخر، قدّم محمد فؤاد، وكيل وزارة الزراعة بمحافظة الأقصر، رواية مغايرة، مؤكدًا أن النمل الأبيض ليس السبب الرئيسي في انهيار بعض المنازل.
وأوضح، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج كلمة أخيرة مع الإعلامي أحمد سالم، أن:
-
النمل الأبيض يسكن المناطق الجبلية
-
أعشاشه تكون على عمق 20 إلى 25 مترًا
-
الفحص الميداني أثبت عدم وجوده في بعض المنازل المنهارة
وأشار إلى أن تهالك المنازل القديمة المبنية بالطوب الطيني وتقادم عمرها الإنشائي هو السبب الأرجح للانهيارات.
وأكد أن وزارة الزراعة تطبق بروتوكولًا معتمدًا لمكافحة النمل الأبيض في حال ثبوت وجوده، بما يضمن سلامة المواطنين والمنشآت.
عدو صامت يهدد البيوت القديمة
بين خوف الأهالي في الأقصر، وتحقيقات الجهات الرسمية، والأبحاث العلمية العالمية، يقف النمل الأبيض في موقع paradox غريب:
عدو صامت يهدد البيوت القديمة…
وفي الوقت نفسه مفتاح محتمل لثورة في الطاقة النظيفة.




