سمر مرسي تكتب :«هل المؤامرة وهم نلوذ به؟!» .. فتنة الحكاية الخفية..
فتنة الحكاية الخفية بين الشك والحاجة إلى المعنى
ليس أخطر ما في الأخبار ما يُنشر، بل ما يُظن أنه أُخفي عمدًا. ففي اللحظة التي يعجز فيها العقل عن الإمساك بخيطٍ واضحٍ للأحداث، يبدأ في نسج خيوطه الخاصة، مستعينًا بالشك أكثر مما يسعفه بالدليل. هكذا تولد نظريات المؤامرة؛ لا كـ ترف ذهني، بل كحاجة نفسية ملحّة لفهم عالمٍ يُصر على أن يبدو أعقد مما ينبغي. وبين الحقيقة المجتزأة واليقين المعلق، يجد الإنسان نفسه ميالًا إلى الرواية التي تمنحه تفسيرًا كامل الأركان، حتى وإن كان مبنيًا على الظلال لا الوقائع.
لماذا نميل إلى فكرة نظريات المؤامرة؟!
في كل عصرٍ يا سادة، كان الإنسان مولعًا بما لا يُقصد أكثر من ولعه بما قيب. وما بين الخبر العابر والحقيقة الصلبة، تنبت حكاية أخرى، أقل وضوحًا وأكثر إغراءً: حكاية المؤامرة. تلك الفكرة التي لا تطرق الأبواب، بل تتسلل من الشقوق، وتهمس في الأذن قائلة: ليس كل ما تراه هو كل ما حدث.
لسنا – كما يُخيّل إلينا – أبناء هذا الزمن وحده في هذا الميل. ففي كثير من الأحيان تُحاك المؤامرة همسًا، ويظل السؤال حاضرًا: من يُحرّك الخيوط؟ ومن المستفيد؟ لكن في أحيان أخرى تُذاع المؤامرة على الملأ، وتُقدَّم في ثوب الحقيقة المطلقة.
يميل الإنسان إلى نظريات المؤامرة لأنه بطبيعته يكره الفراغ. الفراغ في التفسير، في الفهم، في معنى ما يحدث حوله. حين تقع الكارثة بلا ملامح واضحة، أو تتخذ القرارات دون مقدمات مفهومة، يتراجع العقل خطوة إلى الخلف، ويستعين بالخيال ليُكمل المشهد الناقص. المؤامرة هنا ليست كذبة بقدر ما هي راحة مؤقتة؛ تفسير جاهز يعفي صاحبه من عناء الحيرة والبحث عن الاتساق مع الذات.
المؤامرة تمنحنا شعورًا خفيًا بالتفوق
ومن العجب أن المؤامرة بها ما يُرضي كبرياءنا الإنساني. فهي تمنحنا شعورًا خفيًا بالتفوق: نحن نعرف ما لا يعرفه الآخرون. نصبح شركاء في سرّ كوني، نطلّ من شرفته على العالم، ونرى الجموع تمشي مطمئنة، بينما نحن وحدنا نمتلك مفاتيح الغرفة الخلفية للأحداث.
ولا يمكن تجاهل أن التاريخ نفسه، بكل ما فيه من انقلابات وخدع سياسية ومصالح مستترة، قد درّب الإنسان على الشك. فحين يكتشف القارئ أن بعض الوقائع التي دُرست له بوصفها حقائق، لم تكن سوى روايات يحكيها المنتصرون، يتعلم أن يسأل دائمًا: ومن كتب القصة؟ ولماذا بهذه الصيغة؟
غير أن الخطورة لا تكمن في الشك، بل في استيطانه الدائم. حين يتحول التساؤل إلى عقيدة، والمؤامرة إلى تفسير وحيد لكل ما يحدث، يفقد العقل مرونته، ويصبح أسيرًا لرواية واحدة لا تقبل النقاش. وهنا، لا يعود الإنسان باحثًا عن الحقيقة، بل حارسًا لوهمٍ مريح.
لا نخشى الحقيقة بقدر ما نخشى غيابها
لعل انجذابنا إلى نظريات المؤامرة ليس إعلانًا عن سذاجتنا، بل اعترافًا غير مباشر بقلقنا الدائم من المجهول. نحن لا نطلب الكذب، بل نطلب المعنى، ولا نخشى الحقيقة بقدر ما نخشى غيابها. غير أن الحكمة لا تسكن في التسليم الأعمى ولا في الرفض المطلق، بل في ذلك التوازن الدقيق بين الشك والفهم. فالعقل الذي يسأل يظل حيًا، أما العقل الذي يكتفي بالمؤامرة جوابًا أخيرًا، فإنه يطفئ فضوله بيده، ويغلق الستار قبل أن يكتمل المشهد.
نحن لا نميل إلى نظريات المؤامرة لأننا سذّج، بل لأننا بشر. نخاف من العبث، ونرتب الفوضى بالحكايات، ونُجمّل العجز بتفسيرات كبيرة الحجم. وبين حقيقة ناقصة ومؤامرة محكمة الصنع، يختار الكثيرون الثانية، لأنها – على قسوتها – أكثر أناقة، وأكثر قابلية للتصديق.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل المؤامرة وهم نلوذ به؟!
أم مرآة مشروخة تعكس خوفنا من عالم لا نعترف بأننا لا نفهمه تمامًا؟!









