نرمين نبيل تكتب: فتاة المترو والرجل المسن : التحرش جريمة لها عقاب لا رأيا يناقش
بدأت واقعة فتاة المترو من مشهد عادي جدا، يتكرر يوميا في وسائل المواصلات العامة: فتاة تجلس في المترو، وضعت رجلا على رجل، لا أكثر ولا أقل. فعل بسيط، لا يحمل إيذاء لأحد، ولا يخالف قانونا، ولا يمس حقا عاما. ومع ذلك، تحول هذا المشهد الطبيعي إلى ذريعة جاهزة لتبرير التحرش، ثم لإدانة الضحية بدلا من إدانة الجريمة.
مجتمع اعتاد مراقبة جسد المرأة أكثر من مراقبة السلوك الإجرامي
وضع المرأة رجلا على رجل ليس عيبا، وليس استفزازا، وليس دعوة مفتوحة للاعتداء. هو وضع جلوس طبيعي كما يجلسه الرجال دون أن يسألوا أو يحاسبوا أو تفتح حولهم معارك أخلاقية. لكن في مجتمع اعتاد مراقبة جسد المرأة أكثر من مراقبة السلوك الإجرامي، يصبح الجلوس نفسه موضع اتهام، وتتحول التفاصيل الهامشية إلى محاكمة أخلاقية كاملة.
من هنا بدأت المأساة الحقيقية. لم يطرح السؤال المنطقي: لماذا تحرش الرجل؟ بل طرح السؤال الأخطر: لماذا جلست الفتاة بهذه الطريقة؟ وكأن الجريمة ليست في الفعل، بل في وجود المرأة أصلا في المجال العام. وكأن جسدها مطالب دائما بتقديم مبررات أخلاقية لكل حركة تقوم بها.
ثقافة كاملة ترى المرأة متهمة افتراضيا
حين واجهت الفتاة المتحرش، وصورت الواقعة، لم تستقبل باعتبارها ضحية تدافع عن حقها، بل كطرف متجاوز أو مستفز أو باحث عن الشهرة. انتقل النقاش من جريمة تحرش واضحة إلى جدل جانبي حول الذوق والتقاليد واحترام الكبير في السن، وتجاهل الجميع حقيقة بسيطة: الاحترام لا يمنح لمن ينتهك جسد الآخرين.
الأخطر في الواقعة أن عمر الرجل استخدم كدرع أخلاقي لتخفيف الجريمة، بينما استخدم جسد الفتاة كسلاح ضدها. كأن المجتمع يقول بوضوح: الرجل يغفر له لأنه عجوز، والمرأة تدان لأنها كانت جريئة. وهو منطق يكرس خطاب كراهية صريحا، يعفو عن المعتدي، ويقسو على الضحية.
واقعة فتاة المترو كشفت أن المشكلة ليست حادثة فردية، بل ثقافة كاملة ترى المرأة متهمة افتراضيا، والرجل ضحية للظروف. ثقافة تخلط بين الحياء والصمت، وبين الأخلاق والخضوع، وتعتبر أن حماية المجتمع تبدأ من تقييد النساء لا من محاسبة المعتدين.
التركيز على الجريمة لا على جسد الضحية
وهنا تتضح مسؤولية الجميع. الإعلام مطالب بتغيير زاوية السرد، والتركيز على الجريمة لا على جسد الضحية أو سلوكها. ورجال الدين مطالبون بخطاب واضح لا لبس فيه، يجرم الاعتداء ويؤكد أن كرامة المرأة حق أصيل لا يخضع للتأويل أو التبرير. أما التعليم، فهو خط الدفاع الأول، حين يزرع في وعي الأطفال احترام الجسد وحدود الآخر منذ الصغر.
في المقابل، لا بد من توعية المرأة بحقوقها القانونية، وتشجيعها على المواجهة دون خوف أو خجل، مع رسالة حاسمة للرجل بأن القانون فوق الجميع، وأن التحرش جريمة لها عقاب، لا رأيا يناقش ولا اجتهادا أخلاقيا.
الخلاصة أن ما فعلته فتاة المترو لم يكن خروجا عن القيم، بل دفاعا عن الكرامة. والعيب الحقيقي ليس في وضع رجل على رجل، بل في مجتمع يضع اللوم دائما في الاتجاه الخطأ، ويحتاج أن يعيد تعريف الأخلاق على أساس العدالة، لا السيطرة




