محاولات كسر العزلة الدولية: كيف توظف دولة الاحتلال الدعم الإنجيلي الأمريكي لإعادة تسويق نفسها سياسيًا ودينيًا؟
كثّفت دولة الاحتلال الإسرائيلي تحركاتها الخارجية في محاولة واضحة لـفض العزلة السياسية والأخلاقية التي تعاني منها على الساحة العالمية. وفي هذا السياق، جاءت زيارة وُصفت بأنها «الأضخم من نوعها» منذ قيام إسرائيل، حيث سافر أكثر من ألف قسّ وقائد رأي مسيحي إنجيلي من الولايات المتحدة إلى تل أبيب خلال شهر ديسمبر الجاري، بالتزامن مع موسم أعياد الميلاد.
الزيارة، التي حظيت بتغطية واسعة في الإعلام الأمريكي المحافظ، لم تكن دينية بحتة، بل حملت أبعادًا سياسية وإعلامية وأمنية، ضمن مسعى إسرائيلي لإعادة إنتاج سردية “الضحية” وتجنيد أصوات مؤثرة داخل المجتمع الأمريكي، خاصة في الأوساط الإنجيلية ذات الثقل الانتخابي.
زيارة ممولة رسميًا… ودعم مباشر من حكومة نتنياهو
بحسب ما أوردته شبكة فوكس نيوز، فإن الحكومة الإسرائيلية موّلت الزيارة بالكامل، ونُظّمت بدعم مباشر من التيار الإنجيلي الصهيوني في الولايات المتحدة، في خطوة تعكس مستوى التنسيق غير المسبوق بين الطرفين.
وهدفت الرحلة – وفق وسائل إعلام أمريكية – إلى إعداد المشاركين للعمل كسفراء غير رسميين لإسرائيل داخل مجتمعاتهم وكنائسهم، عبر نقل رواية إسرائيلية جاهزة إلى ملايين المتابعين، مستندة إلى الغطاء الديني والعاطفي الذي يحمله الخطاب الإنجيلي الصهيوني.

وجاء توقيت الزيارة في ذروة أعياد الميلاد، إحدى أهم المناسبات الدينية لدى المسيحيين، إضافة إلى عيد الفصح، ما منحها بعدًا رمزيًا يسعى لربط إسرائيل دينيًا بالوجدان المسيحي الأمريكي.
برنامج مكثف: سياسة، أمن، وعقيدة
لم تقتصر الزيارة على جولات سياحية أو طقوس دينية، بل شملت:
-
لقاءات سياسية وأمنية رفيعة المستوى
-
جلسات إحاطة مع مسؤولين حكوميين
-
لقاءات مع قادة عسكريين وأمنيين
-
اجتماع رسمي مع الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ
ووصفت هذه اللقاءات بأنها «تجربة متكاملة» تهدف إلى تعزيز الارتباط الديني والسياسي بإسرائيل، وتحصين خطاب داعميها في مواجهة الانتقادات الدولية المتصاعدة.
مايك إيفانز… مهندس الرحلة وحليف نتنياهو

تولى تنظيم الرحلة مايك إيفانز، الكاتب والقيادي الإنجيلي الصهيوني البارز، وأحد أبرز حلفاء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب داخل الأوساط الإنجيلية، وصديق مقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ويُعد إيفانز:
-
مؤسس مركز «أصدقاء صهيون للتراث» في القدس
-
شخصية محورية في ربط الإنجيليين الأمريكيين بإسرائيل
-
لاعبًا مؤثرًا في تشكيل الرأي العام المحافظ داخل الولايات المتحدة
وأوضح إيفانز أن هدف الرحلة هو:
«إتاحة الفرصة أمام القساوسة لاختبار إسرائيل عن قرب، والتذكير بالحقائق التأسيسية للإيمان».
لكن مراقبين يرون أن هذه “الحقائق” تُقدَّم ضمن إطار انتقائي يخدم الرواية الإسرائيلية، ويتجاهل الواقع الإنساني في الأراضي الفلسطينية.
خطاب «الضحية الدائمة» وتبرير الحرب
خلال الزيارة، تبنّى عدد من المشاركين خطابًا يصوّر إسرائيل باعتبارها «ضحية دائمة»، مع ترديد مزاعم غير موثقة حول الفلسطينيين. وقالت تامِرن فولي، وهي مشاركة من ولاية فلوريدا، لموقع «فوكس ديجيتال»، إن:
«أكثر من نصف الفلسطينيين يتبنون أيديولوجيا حماس»،
دون تقديم أي أدلة تدعم هذا الادعاء.
ويرى محللون أن مثل هذه التصريحات تعكس نجاح البرامج التوجيهية المصاحبة للزيارة في ترسيخ خطاب تبريري للعمليات العسكرية الإسرائيلية، خصوصًا في غزة والضفة الغربية.
جذور العلاقة: ترامب والإنجيليون الصهاينة
تشير تقارير صحافية إلى أن علاقة دونالد ترامب بالتيار الإنجيلي الصهيوني تعمّقت منذ عام 2003، عقب تواصله مع وايت-كاين، التي عرّفته على قيادات إنجيلية نافذة، من بينهم مايك إيفانز.
وقد لعب هؤلاء دورًا أساسيًا في:
-
دعم قرارات ترامب المؤيدة لإسرائيل
-
نقل السفارة الأمريكية إلى القدس
-
توفير غطاء ديني لسياسات الاحتلال
«الدفاع عن الحياة»… شعار يصطدم بأرقام غزة
يثير الخطاب الإنجيلي الداعم لإسرائيل تساؤلات أخلاقية عميقة، خاصة في ظل ما تشهده غزة من كارثة إنسانية غير مسبوقة.
فبحسب تقرير للأمم المتحدة صادر في مايو/أيار:
-
قُتلت أكثر من 28 ألف امرأة وفتاة في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023
-
بمعدل امرأة وفتاة كل ساعة نتيجة الهجمات الإسرائيلية
وتشير أرقام وزارة الصحة في غزة إلى:
-
تجاوز عدد القتلى 70 ألفًا
-
مع تقديرات غير رسمية ترجّح أرقامًا أعلى بكثير
-
الغالبية العظمى من الضحايا مدنيون
الإنجيليون الأمريكيون… دعم يتجاوز الرأي العام

رغم هذه الأرقام، لا يزال قطاع واسع من الإنجيليين الأمريكيين يعتبر العمليات الإسرائيلية «ردًا مشروعًا» على هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
ووفق استطلاع لمجلس شيكاغو للشؤون العالمية:
-
64% من الإنجيليين البيض يرون أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة مبررة
-
وهي نسبة تفوق بكثير متوسط الرأي العام الأمريكي
وفي تحليل نشره موقع Responsible Statecraft، أشار الباحث بول آر بيلار إلى أن:
«غالبية الأخبار الواردة من غزة لا تتعلق بمعارك، بل بعمليات قتل واسعة النطاق تطال المدنيين»،
بمعدل يقارب 150 قتيلًا يوميًا منذ أواخر 2023.
روايات خيالية وتمهيد ذهني للعنف
لفت تقرير آخر إلى أن مايك إيفانز سبق أن عمل على رواية خيالية غير منشورة تصوّر حربًا شاملة على إسرائيل، مع طمس واضح للفصل بين المدنيين والمقاتلين، وهو ما يعكس – بحسب مراقبين – محاولة مبكرة لـتهيئة الوعي الجمعي لتقبل مستويات عالية من العنف.
دبلوماسية دينية لكسر العزلة
تعكس هذه الزيارة الضخمة تحولًا في أدوات الدبلوماسية الإسرائيلية، من الاعتماد الحصري على القنوات الرسمية، إلى توظيف الدين والشبكات الإنجيلية لكسر العزلة الدولية، وتلميع صورة الاحتلال في لحظة تاريخية حرجة.
لكن في المقابل، يزداد التناقض بين الخطاب التبريري والواقع الميداني، ما يطرح سؤالًا جوهريًا:
إلى أي مدى يمكن للدعم الديني والسياسي أن يطمس حقائق الكارثة الإنسانية المستمرة؟
















