نصيحة بيريز لحمد
قطر بين ازدواجية المواقف وتحالفات الظل.. من انقلاب الحكم إلى قاعدة العديد وصفقات الحماية الأمريكية

لم يكن مشهد الغارات الإسرائيلية على غزة بعد يوم واحد فقط من قمة الدوحة التي حشدت لها قطر الزعماء العرب في الوقت نفسة تدير حوار عن شراكة امريكية وكأن الجنود الامريكان في قاعدة العديد تصدوا للعوان الإسرائيلي ماحدث لايعتبر مجرد حدث عابر، بل فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات حول ازدواجية المواقف القطرية. ففي الوقت الذي اصطف فيه الإعلام المصري رسميًا وشعبيًا إلى جانب قطر في لحظة العدوان، كشفت تسريبات وتحركات لاحقة عن سعي الدوحة لتوقيع اتفاقية شراكة دفاعية جديدة مع الولايات المتحدة، في مشهد يكرّس السياسة المزدوجة التي عُرفت بها قطر منذ عقود.
انقلاب الابن وبداية "عصر الحمدين"
العودة إلى التاريخ القريب تكشف جذور هذه الازدواجية. ففي منتصف التسعينيات، شهدت قطر انقلابًا دراميًا حين أطاح حمد بن خليفة آل ثاني بوالده خليفة بن حمد، بدعم مباشر من وزير الخارجية حينها حمد بن جاسم وزوجته الشيخة موزة. التسريبات وقتها تحدثت عن انتشار الضباط المسلحين أمام منازل العائلات الكبرى وفرض الولاء بالقوة، بينما وُضع الرافضون قيد الإقامة الجبرية. إعلان تنصيب الأمير الجديد فجّر موجة غضب عارمة في عواصم عربية كالقاهرة والرياض ودمشق وبغداد.
الحل السحري.. الارتماء في أحضان واشنطن وتل أبيب
أمام هذا الغضب، تفتق ذهن حمد بن جاسم عن "الحل المثالي": إعلان الخضوع التام للحماية الأمريكية والإسرائيلية. وبعد أيام من الانقلاب، طار الوزير إلى واشنطن حيث التقى شيمون بيريز، وتم التفاهم على فتح مكاتب تمثيل تجاري بين الدوحة وتل أبيب، في خطوة شكلت بداية علاقة معلنة مع إسرائيل. بيريز نصح حمد بن جاسم بأن طريق قطر إلى التأثير الإقليمي يمر عبر الإعلام، وهنا بدأ التحضير لمشروع قناة "الجزيرة".
قناة الجزيرة.. مشروع إعلامي بوجه عربي وروح صهيونية
وفق ما أورده الصحفي الفرنسي تيري ميسان، فقد رشّح بيريز الأخوين اليهوديين ديفيد وجان فريدمان ليقودا المشروع الإعلامي الجديد، على أن يتم استقطاب أكثر من 120 صحفياً من هيئة الإذاعة البريطانية BBC لتشكيل الطاقم المؤسس. وبالفعل صدر المرسوم الأميري في 8 فبراير 1996 بإنشاء القناة، وبدأ بثها الرسمي في نوفمبر من العام ذاته. الزيارة الشهيرة التي قام بها بيريز لاستوديوهات الجزيرة في سبتمبر 1996 اعتُبرت دليلاً على العلاقة المباشرة بين المشروع الإعلامي الإسرائيلي والأجندة القطرية.
قاعدة العديد.. الحماية الأمريكية بثمن باهظ
لم تكتف قطر بالجزيرة، بل أعلنت في الفترة نفسها عن مشروع بناء قاعدة العديد العسكرية بتكلفة ملياري دولار أمريكي، لتكون أكبر قاعدة أمريكية في الخليج العربي، تضم أكثر من 10 آلاف جندي وما يزيد عن 100 طائرة مقاتلة. هذه الخطوة منحت الأمير الجديد مظلة حماية أمريكية دائمة، ورسخت سيطرته على العرش، لتدخل قطر مرحلة جديدة من التبعية الأمنية والسياسية.
ازدواجية بلا حدود
اليوم، وبعد مرور ما يقارب ثلاثة عقود، يتكرر المشهد لكن بصيغة أكثر وضوحًا. فبينما ترفع قطر شعار دعم المقاومة وتدين العدوان الإسرائيلي إعلاميًا عبر منصاتها، فإنها في الوقت نفسه تبرم صفقات دفاعية استراتيجية مع واشنطن وتفتح قنوات اتصال مع تل أبيب، في نموذج صارخ لـ السياسة المزدوجة التي تجمع بين الخطاب العاطفي والممارسة البراغماتية.
امتداد لخط تاريخي يبدأ من انقلاب 1995 مرورًا بإنشاء قناة الجزيرة وقاعدة العديد
المشهد القطري ليس جديدًا، بل امتداد لخط تاريخي يبدأ من انقلاب 1995 مرورًا بإنشاء قناة الجزيرة وقاعدة العديد، وصولًا إلى تحالفات اليوم. وكما وصف الصحفيان الفرنسيان نيكولا بو وجاك ماري بورجيه في كتابهما الشهير "قطر هذا الصديق الذي يريد بنا شرًا"، فإن الدوحة لا تزال تمثل "المشهد الأغرب في السياسة العالمية"، حيث تفعل الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، وتبقى دائمًا لاعبًا مثيرًا للجدل في معادلات الإقليم.