غزة تحت ركام الصور.. ألاقمار الصناعية تكشف منهجية التدمير وأبعاد الكارثة الإنسانية

تتناقلت الوكالات الدولية صورًا التقطتها أقمار صناعية تجارية تُظهر كيف تحوّلت مدينة غزة من كتلة حضرية مكتظة إلى مساحات واسعة من الركام. هذه الصور التي حللتها شبكة سي إن إن استنادًا إلى بيانات بلانت لابس بين 9 أغسطس و5 سبتمبر تقدم شهادة بصرية على حرب منهجية تستهدف البنية التحتية المدنية. أكثر من 1800 مبنى إما سُوي بالأرض أو تضرر بشكل بالغ، في وقت تتصاعد فيه التحذيرات الأممية من "مجاعة متعمدة" ونزوح قسري واسع.
أولًا: مشهد الدمار الممنهج من السماء
الصور أظهرت أن الدمار يتركز في ثلاثة محاور رئيسية:
-
حي الزيتون جنوب المدينة: مشاهد لمدرسة حُوّلت إلى قاعدة عسكرية مؤقتة، ثم فجّرتها القوات الإسرائيلية مع مبانٍ مجاورة. وفي 19 أغسطس/آب رُصدت معدات ثقيلة تزيل الأبنية، وبعد 24 ساعة تقدمت القوات 300 متر داخل الحي مخلّفة 26 مبنى مدمرًا.
-
حي التفاح شرقًا: أجزاء واسعة دُمرت رغم أنها كانت ملاذًا لآلاف النازحين الفلسطينيين.
-
مخيم جباليا شمالًا: تسوية نحو 750 مبنى بالأرض، ما أدى إلى تهجير آلاف الأسر.
هذه المشاهد لا توحي بضربات جوية عابرة، بل بعملية هدم بطيء ومنهجي تنفذها الجرافات والحفارات، مبنى تلو الآخر.
ثانيًا: النزوح المتكرر ومعاناة الخيام المفقودة
في المراحل الأولى للحرب، وُصفت غزة بأنها "الأقل تضررًا" مقارنة بمناطق أخرى في القطاع. لكن صور سبتمبر كشفت أن المباني التي صمدت سابقًا أصبحت اليوم ركامًا. حتى صفوف الخيام التي كانت تحيط بالمدينة وتؤوي آلاف النازحين اختفت، تاركة الأسر بلا مأوى.
تقول إيمان إرهيم (24 عامًا) التي نزحت من الزيتون:
"النزوح كلمة كفيلة بأن تثير دموع أي فلسطيني. إنها معاناة أشبه بحمل جبل على الكتفين. أفضل البقاء في الشمال رغم المخاطر، على أن أعيد تجربة الخدعة بالنزوح إلى الجنوب".
شهادتها تعكس أزمة مضاعفة: النزوح لا ينقذ حياة بل يكرر المأساة في مكان جديد، حيث لا أمان ولا استقرار.
ثالثًا: الأبراج السكنية.. استهداف جماعي للسكان
لم تقتصر العمليات على الأحياء الداخلية، بل طالت أيضًا أبراجًا محيطة بمخيمات النازحين.
-
بين 5 و8 سبتمبر دُمّر 5 أبراج سكنية شاهقة تضم 209 شققًا.
-
بحسب المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة محمود البُزال، فإن أكثر من 4100 مدني – معظمهم نساء وأطفال – باتوا بلا مأوى خلال أيام قليلة.
هذه الأرقام لا تعكس فقط دمارًا عمرانيًا، بل انهيارًا اجتماعيًا لأسر بأكملها فقدت البيت والمأوى والخصوصية في لحظة واحدة.
رابعًا: البعد الإنساني.. شهادات من قلب الجحيم
شهادات النازحين تكشف مأساة لا تصفها الأرقام وحدها.
-
أم فقدت شقتها في التفاح تقول: "لم أجد حتى قطعة قماش أستر بها أطفالي. نعيش بين الركام، والهواء مشبع بالغبار والموت".
-
شاب من جباليا يروي: "حملت أمي المريضة على كتفي وأنا أبحث عن مكان آمن. لم أجد إلا الشارع".
ورغم صعوبة التوثيق الميداني، فإن صور الأقمار الصناعية منحت هذه الشهادات مصداقية إضافية، إذ بدت المساحات المدمرة بلا معالم تقريبًا.
خامسًا: تحذيرات أممية من مجاعة ونزوح قسري
تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) الشهر الماضي حذّر من "مجاعة متعمدة" في غزة. وأكد أن استمرار القتال بهذه الوتيرة يعني تفاقم الجوع، لا سيما مع انهيار شبكات الإمداد الغذائي.
من جانبه، شدد فولكر تورك مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على أن أي تصعيد إضافي سيؤدي إلى:
-
نزوح قسري جماعي جديد.
-
موجات من القتل والمعاناة.
-
دمار عبثي وجرائم فظائع قد ترقى لمستوى جرائم الحرب.
سادسًا: الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للكارثة
دمار غزة لا يُختزل في المباني المهدمة، بل يمتد إلى:
-
انهيار البنية التحتية: مدارس، مستشفيات، محطات كهرباء ومياه.
-
فقدان الثروة السكنية: آلاف الشقق دُمرت، ما يعمّق أزمة الإسكان.
-
تدمير رأس المال البشري: مقتل وإصابة آلاف من الشباب والأطفال، ما يضعف مستقبل التنمية.
-
تآكل رأس المال الاجتماعي: الأسر المشتتة والنازحة تفقد شبكات الدعم التقليدية.
هذا يعني أن إعادة الإعمار لن تكون مجرد بناء جدران، بل إعادة ترميم مجتمع مدمّر.
سابعًا: قراءة سياسية في المشهد
يرى مراقبون أن تكثيف عمليات الهدم يهدف إلى إحداث فراغ سكاني في المدينة وإعادة رسم خرائطها الديموغرافية.
-
بعض التحليلات ربطت ذلك بخطط إسرائيلية طويلة المدى لتفريغ مناطق استراتيجية.
-
آخرون اعتبروا أن هذا النمط من التدمير يشكّل ورقة ضغط سياسية ضد أي مسار تفاوضي يتعلق بحل الدولتين.
غزة بين الركام والمستقبل المجهول
صور الأقمار الصناعية لم تترك مجالًا للشك: ما يجري في غزة هو تدمير واسع النطاق يطاول الحجر والبشر معًا. النزوح المتكرر، المجاعة الوشيكة، وانعدام الأمان كلها عوامل ترسم صورة مستقبل مظلم ما لم يتوقف التصعيد.
اليوم، باتت غزة مدينة أشباح، حيث يختفي العمران وتذوب الخيام، ويُترك المدنيون بين ركام الماضي وغموض المستقبل. وفيما العالم يكتفي بالتنديد، يظل سؤال الفلسطينيين معلقًا: هل من نهاية قريبة لهذا الكابوس؟