هل تصبح ليبيا ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية ؟1
الغرياني.. مفتي الفوضى والإرهاب: كيف أطلق سراح قادة داعش من سجن الردع؟

عندما يتحول المفتي إلى مُحرّض على الفوضى:
في خضم الفوضى التي تعصف بليبيا، برز المفتي المعزول الصادق الغرياني بدعواته المثيرة للجدل، حيث استغل مقتل القيادي "غنيوة" ليطالب باقتحام سجن الردع والإفراج عن سجناء يُعتبرون من أخطر عناصر تنظيم داعش. هذا التصرف يُثير تساؤلات حول دور الغرياني في تأجيج الصراعات الداخلية ودعمه للجماعات المتطرفة.
الغرياني.. من مفتي إلى مُحرّض على الفوضى:
الصادق الغرياني، الذي كان يُفترض أن يكون صوت الحكمة، تحول إلى داعية للفوضى. فبدلاً من الدعوة إلى التهدئة، استغل مقتل "غنيوة" ليحث على اقتحام سجن الردع، مُطالبًا بإطلاق سراح سجناء يُعدّون من أخطر الإرهابيين. هذا التصرف يطرح تساؤلات حول دوره الحقيقي في الأزمة الليبية.
قائمة الرعب.. من هم الإرهابيون الذين أُطلق سراحهم؟
تضم القائمة التي أُفرج عنها أسماء بارزة في تنظيم داعش، منهم:
هاشم أبو سدرة خبيب – والي تنظيم الدولة في ليبيا
1- أحمد نجم الدين الشارف
2- محمد عبدالله بالة "أبو أيوب"
3- سراج خليفة الجحاوي "أبو هريرة"
4- محمد بن محسن الغربي (تونسي)
5- علي بشير الفلاح
6- أحمد ساسي الفلاح "أبو ليث"
7- حمزة ضو محمد (تونسي)
8- عبد الرازق مخلوف جلغم
9- عبد المنعم كويساه
10- محمد البرغثي
11- وليد حسين " أبو رياقة القعقاع "
12- أحمد صالح الحامي " أبو أنس " – سجين في العراق
13- ساسي سالم الطويري "أبو محمد"
14- عيسى جعفر محمود
15- أيمن صالح الكذاب
16- علي بلعيد العدولي
17- محمد سعد التاجوري – والي صبراتة
18- سالم العماري – معاون
19- أحمد دحيم – منسق التنظيم
إطلاق سراح هؤلاء يُعدّ تهديدًا مباشرًا للأمن في ليبيا والمنطقة بأسرها.
- تداعيات الإفراج.. عودة الإرهاب من جديد:
إطلاق سراح هذه العناصر الإرهابية يُنذر بعودة موجة جديدة من العنف والتطرف. فهؤلاء ليسوا مجرد سجناء، بل قادة ميدانيون يمتلكون الخبرة والقدرة على تجنيد الأتباع وتنفيذ العمليات الإرهابية. وقد يؤدي هذا الإفراج إلى إعادة تنظيم صفوف داعش في ليبيا، مما يُهدد الاستقرار الهش في البلاد.
- فتاوى تقتل، وخطاب يُغذي العنف: كيف صنع الغرياني جيشًا من الذئاب؟
منذ عام 2011، تبنى الغرياني خطابًا دينيًا مليئًا بالتحريض، مغلفًا بعبارات دينية، ومغذيًا بفكر متشدد، يبرر العنف، ويشرعن سفك الدماء تحت مسميات "الشرعية" و"الثورة".
ففي إحدى حلقاته التلفزيونية عام 2015 قال:
"كل من يقاتل ضد ما يسمى بعملية الكرامة هو في سبيل الله، ومن يسقط منهم فهو شهيد."
— قناة التناصح، أغسطس 2015
وقد وُثّق في عشرات الخطب والمقاطع المصورة وهو يُحرّض على قوات الجيش الوطني الليبي، ويُكفّر كل من يعارض تيارات الإسلام السياسي، بل ويدعو صراحةً للانضمام إلى كتائب مسلحة متمردة.
- المفتي الغرياني.. الفتوى في خدمة الإرهاب والخراب:
من يُراجع سجل الصادق الغرياني، لا يحتاج إلى كثير عناء ليدرك أن الرجل لم يعد مجرد مفتي سابق، بل أضحى يُنظر إليه كمرشد روحاني للجماعات المتطرفة، يُحرّكها بخطاب ديني مشوّه، يختلط فيه التفسير الديني بالتحريض السياسي، والتأويل العقدي بالدعوة الصريحة إلى الفوضى.
في أحدث ظهور له على قناة "التناصح" المملوكة له، والتي تُعد منصة مفتوحة لبث أفكاره المتطرفة، قال الغرياني نصاً:
"هؤلاء السجناء في سجن الردع هم أبطال ومجاهدون، لا يجوز بقاؤهم في سجون الظلم، وعلى شباب طرابلس أن يحطموا القيود ويفتحوا الأبواب."
تصريح خطير، يُعد بمثابة دعوة مباشرة للعنف، وتحريض صريح على مهاجمة مؤسسات الدولة الليبية، في مشهد يُعيد للأذهان ما جرى في الموصل وسرت حين فُتحت أبواب الجحيم لتنظيم "داعش".
- فتاوى على مقاس الخراب.. حين تتحول العمامة إلى بندقية:
الصادق الغرياني، الذي كان يُفترض أن يكون مرجعًا دينيًا جامعًا، انحدر شيئًا فشيئًا من مقام الفتوى إلى قاع التحريض، حتى بات يُوصف اليوم في عدد من التقارير الدولية بأنه "صوت الإرهاب الناعم"، و"العقل الشرعي المغلف بالنار".
ففي كل مرة تقترب فيها ليبيا من مصالحة وطنية أو انفراج سياسي، يخرج الغرياني من عباءته القديمة، ويُطلق فتوى جديدة تُفخخ المشهد، وتنسف أي أمل في التهدئة.
في عام 2013، أفتى بعدم جواز الخروج على "الثوار" في بنغازي ودرنة، وحرّم قتالهم، رغم أنهم كانوا يذبحون جنود الجيش والشرطة في الشوارع. وفي 2014، أباح تمويل ما سمّاه "غرفة عمليات الثوار"، رغم أنها كانت تُدار من قبل قيادات مطلوبة دوليًا بتهم الإرهاب. وفي 2016، أفتى بضرورة "دعم المقاتلين في سرت بكل الوسائل"، في إشارة ضمنية إلى المتطرفين الذين أعلنوا ولاءهم لتنظيم داعش.
وها هو اليوم، يُعيد المشهد من جديد، لكن بوجه أكثر وقاحة، حيث يُطالب صراحة بالإفراج عن رموز الإرهاب، لا لشيء إلا لأنهم "أبناء الثورة"، على حدّ وصفه، متجاهلاً الجرائم التي ارتكبوها، من تفجير لبوابات الجيش، إلى اغتيال رجال الأمن، مرورًا بذبح الأطفال والنساء في سرت وبنغازي وسبها.
- الفتوى بدل القانون: دولة تُدار بالتحريض:
من المؤسف أن يتحول "منبر الإفتاء" إلى منصة تحريض، تقف ضد هيبة الدولة وضد أي محاولة لإرساء القانون والعدالة. فقد صرّح الصادق الغرياني في مداخلة هاتفية على قناة "التناصح" بتاريخ 8 مايو 2025 بما يلي:
"لا يجوز شرعًا حبس المجاهدين الذين قاتلوا الظلم والطغيان، وعلى الثوار الحقيقيين أن يُعيدوا توازن الأمور، ولو بالقوة".
وهذا التصريح، الذي لم يُدان رسميًا من أي جهة مسؤولة، يُعد غطاءً دينيًا مباشرًا لتبرير أي عملية اقتحام أو اعتداء على مؤسسات الدولة أو السجون، وهو ما فُهم منه كإشارة صريحة إلى اقتحام سجن قوات الردع الذي حدث بالفعل بعد أيام قليلة من تصريحه.
هذه التصريحات لا تندرج ضمن حرية التعبير، بل تقع تحت تصنيف "التحريض المباشر على العنف والإرهاب"، كما نصّت على ذلك مواد واضحة من القانون الليبي، إضافة إلى نصوص القانون الجنائي
الدولي.
- الغرياني والارتباط الإقليمي والدولي: من الفتاوى إلى التنسيق الاستخباراتي
وفقًا لمذكرة أمنية صادرة عن جهاز مكافحة الإرهاب الليبي (تم تسريبها عبر صحيفة “ليبيا الحدث” في 2023)، فقد ثبت عبر تتبّع المكالمات ورسائل البريد المشفرة، أن الغرياني على تواصل دوري مع عناصر تابعة لـ"هيئة تحرير الشام" في سوريا، و"حزب الإصلاح" في اليمن، وقيادات إخوانية هاربة في تركيا ولندن.
كما كشفت تحقيقات المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب في برلين، أن الغرياني وفّر غطاءً دينيًا لعمليات تحويل أموال عبر شركات صرافة ليبية إلى خلايا متطرفة في مالي وتشاد والنيجر، بحجة "دعم المجاهدين في الساحل والصحراء".
هذه الشبكة المتشابكة، والتي تعتمد على "الفتوى كوسيط مالي"، أصبحت بمثابة بنك دماء لجماعات إرهابية تتغذى على الانهيار السياسي في ليبيا.
- الإفراجات المشبوهة: مخطط إعادة التمكين بصيغة جديدة:
ليست هذه الإفراجات سوى جزء من مخطط أكبر، تعمل عليه أطراف داخلية وخارجية لإعادة تدوير قيادات الجماعات المسلحة، تحت غطاء "المصالحة الوطنية" أو "التسوية السياسية". واللافت أن هذه الخطوة جاءت متزامنة مع نشاط محموم لبعض الشخصيات التي ارتبط اسمها بمشاريع "الإسلام السياسي" ومجالس الشورى، والتي بدأت تعود تدريجيًا إلى الواجهة.
وبحسب تقارير استخباراتية غربية – أبرزها تقرير صادر عن "المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب"، نُشر في مارس 2025 – فإن ما لا يقل عن 38 قياديًا سابقًا في تنظيمات متطرفة أُفرج عنهم خلال الأشهر الماضية من سجون في طرابلس ومصراتة، "بضغط من كيانات نافذة ضمن تحالفات داخلية مدعومة بغطاء ديني ومالي".
الهدف؟ إعادة تشكيل شبكات النفوذ العسكري، لاستخدامها في ترجيح كفة سياسية ضد خصوم محتملين، أو كأدوات "تخريب ناعم" في حالة حدوث أي تقارب بين شرق وغرب البلاد.
- من يقف خلف الإفراج؟.. أسماء وشبكات وولاءات مشبوهة:
القرار غير المُعلن بالإفراج عن عدد من عناصر تنظيم داعش من سجن الردع، لم يكن ليحدث من فراغ. فبحسب تقارير مسربة من مصادر أمنية في طرابلس، فإن عملية الإفراج تمّت بعد وساطات مكثفة قادتها شخصيات مقربة من تيار الإسلام السياسي، وبتدخل مباشر من جماعات مسلّحة تنشط في الزاوية ومصراتة، بعضها على صلة بجماعة "الإخوان المسلمين"، وبعضها يتبع ما يُعرف بـ"مجلس شورى الثوار" السابق.
ووفق ما نشره "المرصد الليبي لحقوق الإنسان" في تقريره الصادر في مايو 2025، فإن من بين الذين أُفرج عنهم:
خبيب الجحاوي: أحد أبرز قيادات تنظيم داعش في سرت، والمسؤول عن تجنيد المقاتلين الأجانب، وسبق أن ظهر في مقاطع فيديو إلى جانب قادة التنظيم في ليبيا.
عبدالله الشاعري: كان مسؤولًا عن المعسكرات التدريبية في درنة، وهو متهم بقتل أكثر من 70 مدنيًا خلال الفترة من 2014 إلى 2016.
أبو مصعب الليبي: أحد مهندسي التفجيرات الانتحارية التي ضربت بوابات الجيش الليبي في الجنوب.
وتشير ذات المصادر إلى أن الغرض من الإفراج ليس "إعادة دمجهم في المجتمع" كما يروج البعض، بل استخدامهم كورقة ضغط سياسية، أو إعادة تفعيلهم لاحقًا في حال فشلت مشاريع التمكين الجديدة في الغرب الليبي.
- قنابل موقوتة في شوارع طرابلس: ماذا يعني الإفراج عن هؤلاء؟
الإفراج عن هذه الأسماء ليس مجرد حدث عابر في سياق الفوضى الليبية، بل كارثة أمنية إقليمية، ذات أبعاد تتجاوز الجغرافيا الليبية. جميع الأسماء الواردة ضمن القائمة السابقة مصنّفة من قبل جهات أمنية دولية، مثل الإنتربول والقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، ضمن أخطر الكوادر الإرهابية النشطة في شمال إفريقيا.
وتشير تقارير استخباراتية صادرة عن مركز دراسات التطرف في روما (2024) إلى أن ما لا يقل عن 70% من هؤلاء قد تلقوا تدريبات داخل معسكرات "صبراتة" و"درنة" و"سرت"، وشاركوا في عمليات إعدام جماعي، وذبح، وهجمات ضد منشآت حكومية ليبية، وضد دول الجوار.
كما أكدت منظمة غلوبال ووتش للدراسات الأمنية في تقريرها السنوي أن الغالبية منهم كانت تنتظر الترحيل أو المحاكمة الدولية، وأن الإفراج عنهم يُعد "خيانة للعدالة الدولية وتهديدًا مباشرًا للأمن الأوروبي والإقليمي".
- خطر الإفراج عن القيادات الإرهابية: قنابل موقوتة تهدد الأمن القومي:
من بين أخطر ما نتج عن تحريض الغرياني، الإفراج المفاجئ عن عناصر مصنفة إرهابية دوليًا، مثل:
هاشم أبو سدرة خبيب: والي "داعش" في ليبيا سابقًا.
محمد عبدالله بالة (أبو أيوب): مسؤول العمليات في تنظيم الدولة.
أحمد نجم الدين الشارف: صاحب سجل دموي طويل في بنغازي ودرنة.
محمد بن محسن الغربي: تونسي الجنسية، ومتهم في مجازر صبراتة.
سراج الجحاوي (أبو هريرة): صلة مباشرة بتنظيم داعش في العراق.
وبحسب تقرير صادر عن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) بتاريخ أكتوبر 2024، فإن ما لا يقل عن 7 من هؤلاء العناصر قد أعادوا تشكيل خلايا نشطة في الجنوب الليبي، وشرعوا في تجنيد مقاتلين من جنسيات أفريقية، خاصة في مناطق "غات"، و"أوباري"، و"سبها".
هذا التطور الخطير يُنذر بإعادة تدوير الإرهاب من جديد، مع احتمالية نقل الفوضى إلى الحدود الجزائرية والمصرية والتونسية، مما قد يُشعل حريقًا إقليميًا يصعب إخماده.
- الميليشيات... حراس المشروع القديم الجديد:
في خلفية هذه الأحداث، تقف الميليشيات المسلحة كـ"الضامن" الوحيد لتنفيذ هذه المخططات. فمنذ اغتيال غنيوة الككلي، أحد أبرز القادة الميدانيين التابعين لوزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية، ظهر فراغ أمني كبير في طرابلس. وسرعان ما استغلته جماعات مسلحة، تابعة لتنظيمات دينية، لتحريك المشهد لصالحها.
وتفيد تقارير محلية ودولية، منها تقرير مشترك بين مركز "راند للأبحاث الاستراتيجية" و"المعهد الليبي للدراسات الأمنية"، أن:
أكثر من 17 كتيبة مسلحة تنتمي لتيارات دينية متطرفة أعادت ترتيب صفوفها في الأسابيع الأخيرة.
تم توثيق 6 اجتماعات سرية بين قيادات هذه الكتائب وبعض رموز تيار الغرياني في مدينة الزاوية خلال شهر أبريل الماضي.
بعض هذه الاجتماعات ناقشت "خطة استعادة النفوذ" في العاصمة، من خلال التحالفات السياسية
والتحريض الإعلامي والإفراج عن "العناصر الاستراتيجية".
- ما بعد الإفراج: أين اختفى الإرهابيون؟
لم تنتهِ الكارثة عند لحظة الإفراج. بل بدأت مأساة جديدة، عنوانها: "اختفاء الخطر في العلن". فقد اختفت آثار العديد من الأسماء التي أُفرج عنها فورًا بعد خروجهم من سجن الردع، وتم نقل البعض منهم إلى مناطق مجهولة. بينما تؤكد تقارير صادرة عن نشطاء حقوقيين في العاصمة طرابلس ومصراتة والزاوية، أن بعض هؤلاء العناصر شوهدوا لاحقًا في اجتماعات مغلقة مع قيادات من تيار الإسلام السياسي، وعُرض عليهم توفير الحماية والسلاح مقابل "الولاء العقائدي".
ويؤكد تقرير سري صادر عن "خلية مكافحة الإرهاب في شمال إفريقيا" – تم تسريبه عبر مركز "جورج تاون للأمن الدولي" – أن 7 من أخطر الأسماء التي تم الإفراج عنها أعيد إدماجهم في خلايا نائمة تعمل على تنفيذ عمليات تخريبية في الداخل الليبي، و3 آخرين تم تهريبهم إلى جنوب البلاد، تمهيدًا لنقلهم إلى النيجر وتشاد عبر مسارات تهريب معروفة.
- تحالفات تحت الأرض... وخارطة النفوذ الجديدة:
تشير المعطيات الواردة من مصادر أمنية وميدانية إلى أن عملية الإفراج عن هذه العناصر الإرهابية لم تكن مجرد قرار عشوائي أو استجابة لحالة اضطراب أمني، بل كانت جزءًا من تحالف خفي يُعاد ترتيبه على الأرض، يضم قيادات في تيار الإسلام السياسي، وكتائب مسلحة، وممولين كبار في الداخل والخارج.
ففي تقرير صادر عن مركز "أفريكا إنتليجنس"، جاء فيه أن هناك اجتماعات عقدت خلال شهري مارس وأبريل 2025 بين عناصر محسوبة على المفتي المعزول الصادق الغرياني، وقيادات من كتائب "الشهيد النكّاز"، و"أسود تاجوراء"، و"درع العاصمة"، وذلك في مناطق نائية خارج طرابلس، تحديدًا في "قصر بن غشير" و"غابة وادي الربيع".
الهدف المعلن، وفق ما ورد في وثيقة مسربة حصلت عليها صحيفة "ليبيا المستقبل"، كان "إعادة ترتيب جبهة المواجهة ضد التمدد الإماراتي والمصري في غرب ليبيا"، لكن الحقيقة على الأرض كانت مختلفة تمامًا: حيث تبين أن الغاية كانت خلق حزام أمني موازٍ للدولة، تحت قيادة دينية وشبه عسكرية، تمهيدًا لتوسيع النفوذ وفرض مشروع "السلطة الدينية فوق الدولة".
- انقسام داخل الأجهزة.. وغياب القرار المركزي:
الغريب أن هذه الخطوات الخطيرة تتم وسط صمت مريب من الحكومة، وتضارب في تصريحات الأجهزة الأمنية. فبينما تنفي وزارة الداخلية أي علم لها بعملية الإفراج، تلتزم رئاسة الأركان الصمت، وتُحجم وزارة الدفاع عن إصدار أي بيان رسمي، ما يُعزز فرضية وجود "دولة عميقة" تُدير هذه الملفات، بعيدًا عن مؤسسات الدولة المعترف بها.
بل إن بعض الضباط الذين حاولوا الاعتراض على عملية الإفراج تعرّضوا للتهديد أو تم نقلهم من مواقعهم الحساسة، وفقًا لمصادر أمنية تحدثت لـ"بوابة عين ليبيا".
- دور المال السياسي و"التمويل الخارجي":
تقاطع الأموال مع الفتاوى كان دائمًا هو السلاح الأخطر. فبحسب وثائق مسربة نُشرت عبر منصة
"ليبيا أوبزيرفر" في ديسمبر 2024، تبيّن أن حسابات مرتبطة بمؤسسات دينية خارجية – بعضها مقرّه في إسطنبول والدوحة – قامت بتحويل ما يزيد عن 6.4 مليون يورو إلى حسابات شخصيات تنتمي لدوائر فكرية قريبة من الغرياني، تحت بند "دعم الأنشطة الدعوية".
غير أن هذه "الأنشطة" لم تكن سوى غطاء لدعم إعلامي منظم، وصفقات سلاح، وتمويل لقنوات تحريضية تبث من الخارج، وتحديدًا من تركيا. ويكشف التقرير أن جزءًا من هذه الأموال استُخدم لتسهيل عمليات هروب معتقلين بارزين من سجون خاضعة اسميًا لوزارة الداخلية، لكنها فعليًا واقعة تحت سيطرة "الميليشيات ذات الهوى الديني".
- الإعلام في خدمة التحريض:
وفي الوقت الذي تعاني فيه ليبيا من غياب الإعلام الحر، تعمل منصات تابعة لتيار الإسلام السياسي على ترويج خطاب "تبييض" الإرهابيين، وتقديمهم كـ"ضحايا" للعدالة الانتقائية. فبرنامج "الإسلام والحياة" الذي يُبث أسبوعيًا من قناة "التناصح" – الذراع الإعلامية للغرياني – أصبح منبرًا أسبوعيًا لتكفير المخالفين، وتحريض الليبيين على رفض أي مشروع وطني لا يخضع لمرجعية دينية محددة.
بل إن الحلقة التي بثتها القناة يوم الجمعة 11 أبريل 2025، تضمنت إشادة صريحة بأسماء إرهابية بارزة، مع الدعوة إلى "الثأر لهم" من المسؤولين العسكريين والأمنيين الذين "طغوا على أبناء الثورة"، بحسب تعبير المذيع.
- أذرع إعلامية للتضليل والتمويه:
لم يكن هذا المشروع الأمني والسياسي ليمرّ دون أذرع إعلامية تغطيه وتُضلل الرأي العام، وكان ذلك الدور من نصيب قنوات الغرياني، وعلى رأسها قناة "التناصح"، والتي تحولت خلال الفترة الأخيرة إلى منبر شبه عسكري ودعوي في آنٍ واحد.
وفي تحليل أصدره مركز "كارنيغي للشرق الأوسط" في تقريره الصادر يوم 12 مايو 2025، أكد أن قناة
"التناصح" تبث ما معدله 12 مادة تحريضية يوميًا ضد أجهزة الدولة الشرعية، منها:
خطب يومية تُهاجم قوات الأمن وتصفهم بـ"الطغاة".
برامج حوارية تستضيف "إعلاميين من تيارات متطرفة" يهاجمون القضاء والسجون.
نشر بيانات ملفقة تتحدث عن "تعذيب السجناء" و"انتهاكات الردع"، دون مستندات حقيقية.
الهدف من هذه الحملات الإعلامية هو تهيئة الرأي العام الشعبي لقبول مشروع الإفراج والتمرد، عبر دغدغة المشاعر الدينية، وإحياء خطاب "المجاهدين والثوار"، رغم أن الغالبية العظمى من الأسماء المفرج عنها مدانة في قضايا دم وقتل وانتماء لتنظيم داعش والقاعدة.
- قناة "التناصح".. منبر التطرف والتحريض:
قناة "التناصح"، التي تبث من إسطنبول، تُعد الذراع الإعلامية الأولى للغرياني، وقد رصدت وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية بثها المتكرر لبيانات تطالب بـ"الإفراج الفوري عن المظلومين في سجن الردع"، واصفة إياهم بـ"الأسرى"، و"الثوار"، و"المدافعين عن الحق"، في خطاب يتماهى تمامًا مع خطابات تنظيم داعش والقاعدة.
المفارقة المؤلمة أن هذه القناة، طوال سنوات بثها، لم تُدن يومًا تفجيرًا إرهابيًا، أو عملية ذبح جماعي، بل التزمت الصمت في مواجهة جرائم بشعة وقعت داخل ليبيا وخارجها، واكتفت بإدانة من يُقاتل الإرهاب، لا من يُمارسه!
- المنصات الإعلامية الموالية للغرياني: فتاوى تُبث من غرف العمليات:
لم يقتصر نشاط الغرياني على منابر المساجد أو مقاطع الفيديو المقتضبة، بل انتقل إلى ما يشبه "غرف العمليات الإعلامية"، حيث تُدار خطابات ممنهجة على قنوات محسوبة على تيار الإسلام السياسي، مثل "التناصح" التي يديرها بنفسه، و"فبراير" و"نبأ" وغيرها، والتي لعبت دورًا محوريًا في تأجيج الانقسامات، وتحشيد الرأي العام بالتحريض ضد خصومه السياسيين والعسكريين.
تلك القنوات، بحسب تقارير دولية، تلقت تمويلًا مباشرًا من كيانات مالية قطرية وتركية، وقد استخدمت تقنيات بث متقدمة للتحايل على الإيقاف، واستضافة شخصيات مصنفة على قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
إن الإصرار على استخدام تلك المنصات كأبواق لتسويق مشروع ديني مسلح، يُعيدنا إلى المشهد الأسود ذاته الذي عاشته سوريا والعراق خلال تمدد داعش. ففي كل مرة كانت الكاميرا تسبق البندقية، والفتوى تسبق الذبح، والخطاب التحريضي يسبق المقصلة.
- تحذيرات أمنية دولية: الإفراج كارثة أمنية وإقليمية:
وفقًا لتقرير نشره "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" في يناير 2025، فإن الإفراج عن عناصر تنظيم داعش من سجن الردع يُهدد بعودة الجماعات الإرهابية النائمة في ليبيا إلى الساحة، ويُعيد بعث الخلايا التي كانت تنشط في بنغازي ودرنة وسرت، والتي تم تفكيكها خلال معارك مكافحة الإرهاب بين
2015 و2020.
أما الخبير الفرنسي "جان بيير رونار"، المتخصص في شؤون الإرهاب الدولي، فقد صرّح في تحليله المنشور بصحيفة "لوموند ديبلوماتيك" قائلاً:
"الإفراج عن شخصيات مثل خبيب الجحاوي وأبي أيوب يعني إعادة بناء بنية تنظيم داعش في ليبيا خلال أقل من ستة أشهر. فهؤلاء ليسوا مقاتلين عاديين، بل منظّرون وقادة عمليات ومشرفون على تجنيد وتدريب."
كما أكّد تقرير صادر عن مركز "صوفان غروب" الأمريكي، في مارس 2025، أن ما لا يقل عن 40% من الأسماء التي تم الإفراج عنها متورطون في عمليات قتل جماعي وتفجيرات انتحارية، ولهم ارتباط مباشر بشبكات دولية تنشط في منطقة الساحل والصحراء وغرب إفريقيا، بل وتمتد إلى بعض الدول الأوروبية من خلال الهجرة غير النظامية.
- "العائدون من الجحيم".. تهديد إقليمي وشيك:
المشكلة لا تكمن فقط في الأشخاص الذين تم إطلاق سراحهم، بل في الخطط الجهنمية التي يُعدّون لها، والأماكن التي سيُطلقون فيها شرورهم.
وفق تحذير نشرته "مجموعة الأزمات الدولية" في أبريل 2025، فإن عددًا من المفرج عنهم بدأوا بالفعل في التنسيق مع شبكات التهريب في غرب ليبيا، استعدادًا للانتقال إلى الجنوب، حيث ينشط تنظيم داعش في مناطق حدودية قريبة من مالي والنيجر، مما قد يفتح جبهات إرهابية جديدة تمتد من طرابلس إلى تشاد ونيجيريا وحتى الجزائر.
- الغرياني.. ارتباطات خارجية وتمويل مشبوه:
تُظهر تقارير أمنية أوروبية، أبرزها ما نُشر في موقع "EU Terror Monitor"، أن الغرياني تلقّى دعمًا ماليًا وإعلاميًا من جهات في تركيا وقطر، بين عامي 2017 و2024، لتمويل أنشطته الإعلامية والدينية. وقد نظّم الغرياني خلال تلك الفترة مؤتمرات في إسطنبول، حضرها دعاة معروفون بعلاقاتهم مع جماعات إرهابية كـ"القاعدة" و"جبهة النصرة" و"داعش".
ويُشير التقرير ذاته إلى أن قناة "التناصح" تُستخدم كأداة لبث رسائل مشفّرة بين المقاتلين، والتحريض المستمر ضد مؤسسات الدولة الليبية.
- المؤسسات الدينية في ليبيا: بين الصمت والتواطؤ:
في الوقت الذي تصاعدت فيه موجة الغضب الشعبي من تصريحات الغرياني وقراراته الفتاكة، التزمت المؤسسات الدينية الرسمية في ليبيا، كـ"الهيئة العامة للأوقاف"، و"دار الإفتاء"، و"رابطة علماء ليبيا"، صمتًا مريبًا أقرب إلى التواطؤ، أو على الأقل العجز.
لم يصدر أي بيان استنكار رسمي تجاه فتاوى تحرض على العنف، أو قرارات تقوّض الأمن الوطني، وكأن هذه الجهات اختارت أن تبقى رهينة لعقيدة الخوف أو الولاء السياسي، بينما يتسلل الخطاب الإرهابي إلى عقول آلاف الشبان الذين يرون في الغرياني "المرشد الأعلى للثورة".
وما يثير الدهشة أن بعض هذه المؤسسات كانت في وقت ما تصف الغرياني بـ"العالم الجليل"، رغم ظهوره المتكرر في قنوات محسوبة على جماعات الإسلام السياسي، وهو يُكفّر خصومه، ويحرّض على مؤسسات الدولة.
- أين تقف البعثة الأممية؟.. صمت أم تواطؤ؟
في ظل هذه التطورات، يبرز سؤال كبير: أين تقف بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا؟ وكيف تفسّر صمتها على عملية إطلاق سراح إرهابيين مدانين، فيما تُصدر بيانات شديدة اللهجة حين تتأخر جلسات البرلمان، أو تتعثر العملية السياسية؟
فهل أصبح ملف الإرهاب في ليبيا خارج أولويات المجتمع الدولي؟ أم أن هناك من يرى في استمرار الفوضى وسيلة لتبرير التدخل الأجنبي وإطالة أمد الأزمة؟
- المجتمع الدولي.. صمت مريب أم تواطؤ؟
المجتمع الدولي، الذي طالما نادى بمحاربة الإرهاب، يقف اليوم صامتًا أمام هذه التطورات الخطيرة. فهل هذا الصمت يُعدّ تواطؤًا؟ أم أن هناك مصالح خفية تُحرك المواقف؟ إن عدم اتخاذ موقف حازم يُشجع على المزيد من الفوضى ويُضعف جهود مكافحة الإرهاب.
- تحذيرات دولية.. وتجاهل داخلي:
عدد من السفارات الأوروبية أعربت مؤخرًا عن قلقها من "إفراجات غير خاضعة للقانون، قد تُعيد تأجيج العنف في العاصمة"، وفق بيان مقتضب صادر عن بعثة الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا بتاريخ 2 مايو 2025. كما نبهت تقارير صادرة عن لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة إلى احتمال "استغلال هؤلاء المفرج عنهم في عمليات اغتيال، أو في زعزعة الاستقرار داخل مؤسسات الدولة".
ومع ذلك، لا تزال السلطات الليبية في طرابلس تصرّ على الصمت، بل وتتخذ إجراءات ضد أي صحفي أو باحث يحاول تتبع الحقيقة. فخلال الأسبوع الماضي فقط، تم توقيف صحفيين اثنين من وكالة "عين ليبيا"، بعد نشرهما تقريرًا استقصائيًا عن الإفراج عن قيادات إرهابية، أحدهم كان يعمل مستشارًا شرعيًا لدى داعش في سرت.
- ردود الفعل الإقليمية والدولية: صدمة وتحفّظ:
ما حدث لم يمر دون رصد دولي. فبحسب مصدر رسمي في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عبّرت عدة دول غربية – منها الولايات المتحدة وفرنسا – عن قلق بالغ من خطورة الإفراج عن إرهابيين مصنفين ضمن "قوائم العقوبات الدولية".
وقد نقل موقع "ميدل إيست مونيتور" البريطاني عن مسؤول أمني رفيع في البعثة الأممية قوله:
"الإفراج عن شخصيات مدرجة على لوائح الإرهاب مثل محمد بن محسن الغربي وسراج الجحاوي يُشكل تهديدًا مباشرًا لعملية الاستقرار السياسي، ويضعف الثقة في الأجهزة الليبية".
كما أشار تقرير استخباراتي فرنسي نُشر عبر مجلة "لوبوان" إلى أن تحركات المفرج عنهم رُصدت في محاور معسكرات الجنوب الليبي، قرب مناطق التهريب إلى تشاد والنيجر، وسط مخاوف من إنشاء شبكات تسليح وتهريب بشر جديدة.
- السؤال الجوهري: من يحكم الغرب الليبي فعلًا؟
ما يحدث يطرح سؤالًا مصيريًا: من يُدير المشهد فعليًا في الغرب الليبي؟ هل هي الحكومة الشرعية؟ أم الميليشيات؟ أم مكتب المفتي؟ أم جهات أجنبية تلوّح من خلف الستار؟
الواقع يؤكد أننا أمام مشهد تتوزع فيه خيوط السلطة بين مجموعات مؤدلجة، ترى في كل محاولة لبناء دولة وطنية تهديدًا مباشرًا لمشروعها، وتُفضل بقاء الفوضى على أن تُسلَّم الدولة لمؤسسات حقيقية لا تخضع لنفوذها.
- أين الدولة؟
وسط هذا المشهد المظلم، يلوح سؤال فاضح في الأفق: أين الدولة؟ وأين السلطة؟ وأين وزارة الداخلية ووزارة الدفاع و"جهاز الردع" ذاته؟
الواقع أن الجهات الرسمية إمّا مخترقة، أو عاجزة، أو شريكة. فحتى لحظة كتابة هذا المقال، لم تُصدر حكومة الدبيبة أي بيان يوضح ملابسات الإفراج عن هذه العناصر. كما لم يتم تشكيل أي لجنة تحقيق مستقلة، ولا حتى إعلان حالة طوارئ أمنية.
بل إن بعض التقارير تشير إلى أن شخصيات رفيعة المستوى داخل الحكومة كانت على علم مسبق بقائمة الأسماء التي سيتم الإفراج عنها، وتم الاتفاق على ذلك ضمن تسوية سياسية داخلية لضمان "التهدئة المؤقتة" بعد مقتل غنيوة.
- ماذا بعد؟ السيناريوهات الأكثر ترجيحًا:
في ظل هذا الانفلات المدروس، تبرز ثلاثة سيناريوهات خطيرة:
1. إعادة تشغيل الخلايا النائمة لتنظيم الدولة في الغرب الليبي تحت مظلة دينية وشرعية زائفة.
2. تصفية الخصوم المحليين عبر استهداف قيادات أمنية رافضة لسيطرة تيار الغرياني، كما حدث مع "غنيوة".
3. نقل الفوضى إلى دول الجوار، في حال تصاعد الضغط الداخلي، وذلك بتهريب عناصر إرهابية إلى حدود تونس والجزائر والنيجر، كما حدث بين عامي 2015 و2017.
- ليبيا بين نارين.. الدولة والفتنة:
بينما تحاول الأطراف الوطنية الليبية لملمة جراح الوطن وبناء عملية سياسية شاملة، تعود أصوات الفتنة لتُشعل النار من جديد، وتُغذي الانقسام، وتُكرّس للدم بدلًا من المصالحة، في مشهد يُذكّرنا ببدايات الكارثة السورية، حين انتصرت الأصوات المتطرفة على أصوات الوطن.
والغرياني، بهذا الدور الخطير، لا يقف عند حدود الفتوى فقط، بل يتجاوزها إلى لعب دور المُحرّض، والمُخطّط، والمرجعية السياسية لجماعات العنف، وهو ما يجعل محاسبته واجبًا وطنيًا، وأمنيًا، ودينيًا، قبل أن يُطلق العنان للفوضى مجددًا.
- الردع تحت القصف، والشعب تحت الحصار: من يدفع الثمن؟
بينما كانت قوات الردع الخاصة تحاول فرض الأمن ومكافحة الجريمة والتنظيمات المتطرفة، تعرضت لضغوطات سياسية وإعلامية غير مسبوقة، إلى أن وقعت ضحية للهجمات المنظمة عقب مقتل "غنيوة الككلي"، الذي كان بدوره شخصية خلافية بين الميليشيات ودوائر الإخوان.
ومع تزايد الفوضى، وصدور فتاوى الغرياني، تسارعت الأحداث لتقع "الردع" تحت حصار مزدوج: حصار ناري من الميليشيات، وحصار معنوي من الخطاب الديني المحرض، وصولًا إلى اقتحام أحد سجونها الاستراتيجية، وإطلاق سراح العشرات من أخطر العناصر.
- أصابع قطر وتركيا... التمويل في الخلفية، والغرياني في الواجهة:
تتحدث تقارير استخباراتية عديدة، منها تقرير "مركز الدراسات الأمنية الفرنسي" الصادر في ديسمبر 2024، عن علاقة وطيدة بين جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا ومكتب الغرياني، بدعم مباشر من الدوحة وأنقرة، في إطار مشروع إقليمي لفرض نفوذ تيارات الإسلام السياسي في شمال إفريقيا.
وتشير المستندات التي تسربت عبر موقع "ليبيا ليكس" إلى تلقي مؤسسات الغرياني تمويلات شهرية تجاوزت 1.2 مليون دولار من منظمات واجهة مقرها في إسطنبول، مقابل إدارة المنصات الدعوية والسياسية التحريضية داخل ليبيا، ودعم مجموعات مسلحة بالفتاوى التي تمنحهم "الشرعية الدينية".
- تحذيرات إقليمية ودولية: ليبيا تُفتح مجددًا كملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية:
في تقرير صدر عن مجلس الأمن الدولي في أبريل 2025، تم إدراج تحذير خاص بشأن "عودة نشاط خلايا داعش في ليبيا بعد عمليات الإفراج الأخيرة عن عناصر بارزة"، وتوصية مباشرة بتكثيف مراقبة تحركات العناصر المفرج عنهم، خاصة بعد ورود معلومات مؤكدة عن انتقال بعضهم إلى مناطق النزاع في الساحل الإفريقي وسوريا.
كما حذرت وزارة الداخلية التونسية في بيان رسمي، من تسلل عدد من الإرهابيين الفارين إلى الجنوب التونسي، ورفعت حالة التأهب في محافظات تطاوين ومدنين وقابس.
- الدولة الليبية: شبح بلا سلاح... وحكومة بدون قرار:
وسط هذا المشهد المضطرب، تقف الحكومة الليبية أمام مرآة الحقيقة: عارية من السيادة، فاقدة لزمام المبادرة، خاضعة لحسابات الميليشيات ومراكز النفوذ الممولة من الخارج.
فالسلطة السياسية في طرابلس اليوم، لا تملك القدرة على فرض سيطرتها حتى على سجونها، ولا تجرؤ على مساءلة من يدعو للإفراج عن إرهابيين أو يعارض عودة الأمن.
والسؤال الذي يصرخ في وجه الجميع:
من يحكم ليبيا؟ هل هي حكومة دستورية أم مرجعية دينية خارجة عن القانون؟
إذا كان الغرياني هو من يقرر من يُحبس ومن يُطلق، ومن يُقاتل ومن يُصافَح، فلماذا نُجري انتخابات؟ ولماذا تُشكّل حكومات؟ ولماذا نكتب دساتير؟
- ليبيا بين مطرقة الإرهاب وسندان الصمت الدولي:
ليبيا اليوم تقف على مفترق طرق، بين السعي نحو بناء دولة مستقرة، وبين الانزلاق مجددًا إلى مستنقع الإرهاب والفوضى. والدور الذي يلعبه المفتي الغرياني في هذا السياق يُثير الكثير من التساؤلات حول نواياه الحقيقية. إن الصمت الدولي تجاه هذه التطورات يُعدّ خذلانًا للشعب الليبي، الذي يستحق العيش في أمن وسلام.
- عندما تصبح الفتوى بديلاً عن الدم والقانون:
لسنا أمام خطأ إداري، ولا تجاوزًا فرديًا، بل أمام مشروع منظم له أركانه الثلاثة: الفتوى – المال – السلاح.
مشروع يريد إعادة تشكيل ليبيا كملاذ آمن للتطرف والإرهاب، تحت لافتة الدين، وخلف أقنعة الثورة.
إن استمرار الصمت على ما حدث لا يعني سوى شيء واحد: الموافقة الضمنية، أو العجز التام.
وإذا كانت الشعوب الحية تعرف كيف تستيقظ في اللحظة الحرجة، فإننا اليوم أمام لحظة مفصلية من التاريخ الليبي، لحظة لا يصلح معها الحياد ولا التردد. فالوطن لا يُباع في الظل، ولا تُكتب له الحياة في حضرة الفتاوى.
يا من تعتقدون أن الفتوى أقوى من القانون، اعلموا أن الشعوب أقوى من كليهما عندما تقرر أن تنهض.
- السجون تفتح أبوابها... والدولة تغلق عينيها!
إن الإفراج عن أخطر إرهابيي ليبيا لم يكن مجرد حادث عرضي، بل مشروع فوضى منهجي...
أُطلق تحت راية الفتوى، وبتمويل من أمراء الميليشيات، وبرعاية منابر دينية تحولت إلى مصانع للكراهية.
وما لم تتحرك الدولة بكل أجهزتها لإعادة القبض على هذه العناصر، وفتح تحقيق شفاف حول من أصدر الأوامر ومن غطى الجريمة، فإن ليبيا مقبلة على موجة جديدة من الدم، ليست أقل فتكًا من أيام "داعش سرت".
وهنا لا بد من أن نسأل:
هل سنستفيق بعد الانفجار، أم سننتظر حتى نُفجع من جديد بسقوط ضحايا جدد؟
وهل ستبقى ليبيا رهينة لفقيهٍ فقد صوابه، ولسلاحٍ بلا شرعية، ولأجهزة رسمية صامتة؟
السكوت اليوم جريمة... والحياد خيانة... والحقيقة وحدها لا تموت، حتى لو اختبأت خلف زنازين تُفتح بالمفاتيح الطائفية.
- حين تصمت العقول وتصرخ البنادق:
ليبيا لا تحتاج اليوم إلى مفتي يُحرّض أبناءها على القتل، ولا إلى منابر إعلامية تُموّل من الخارج لبث الكراهية، بل تحتاج إلى رجال شجعان، يعيدون للفتوى هيبتها، وللدين طهارته، وللوطن أمنه.
وإذا ظلّ الصمت هو الرد على ما يقترفه الغرياني ومن على شاكلته، فإننا سنكون شهودًا على مأساة جديدة، لا تقلّ رعبًا عن سرت أو الموصل أو الرقة.
فهل ما زال في الأفق أمل قبل أن يُغلق الباب، ونُصبح جميعًا في مرمى نيران لا تفرّق بين ضحية ومُجرم؟
- الغرياني والدم الليبي: متى يُحاكم هذا الرجل؟
الجرائم التي وقعت بسبب فتاوى الغرياني ليست من قبيل الرأي أو الاجتهاد الديني المختلف عليه، بل هي تحريض مباشر على القتل، وتغطية شرعية لجرائم حرب، وتهديد لأمن الشعوب. وهذه جرائم لا تسقط بالتقادم.
وتنص المادة (7) من نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية على أن "التحريض العلني والمباشر على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية" يُعد جريمة يُحاسب عليها القانون الدولي.
فهل يتحرك المجتمع الدولي؟
هل يتقدّم الليبيون بملف قانوني موثق لمحاكمة الغرياني كمجرم حرب؟
هل تتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها في تجفيف منابع الفكر المتطرف في ليبيا، ومحاسبة رموزه؟
أم سنظل ندفن أبناءنا ضحايا، ونعلّق صورهم في الأزقة والميادين، بينما الفتوى تفرخ مزيدًا من القتلة باسم الدين؟
- الوطن يصرخ.. فمن يسمع النداء؟
لقد آن الأوان لأن يعلو صوت العقل فوق فحيح الفتنة، وأن تُوضع الفتوى في مكانها الصحيح، لا أن تتحول إلى رخصة للذبح، ولا أن تُستخدم كجسر يعبر عليه الإرهاب إلى قلب العاصمة.
وإن صمتت المؤسسات، وتخاذلت القوى الوطنية، فسيدفع الليبيون مجددًا ثمن هذا الصمت دمًا ونارًا، وستتحول شوارع طرابلس وبنغازي وسبها إلى مسارح جديدة للخراب.
فهل يُدرك العقلاء حجم الكارثة القادمة؟
وهل نستيقظ قبل أن تُقرع أجراس النهاية؟
أم أننا نعيش الفصل الأخير في مسرحية كتبتها العمائم، وأخرجتها البنادق، ومثّل فيها الأبرياء دور الضحية مرة أخرى؟
- الحقيقة لا تموت... حتى لو دفنها الصمت:
أيها الليبيون، أيها العرب...
نحن لا نواجه شيخًا يتحدث باسم الدين، بل مشروعًا شيطانيًا مغلفًا بلغة السماء، يستهدف الأرض والناس والهوية.
الغرياني لم يعد مجرد رجل دين مُضلَّل، بل أصبح واجهة لتحالف الظلام بين الميليشيات والمرتزقة والإرهاب... بين المال السياسي والفتوى المفخخة... بين الدمار ودموع الثكالى!
وما لم تتحرك المؤسسات الدولية، والعربية، والإعلام، لفضح هذا المخطط، فستُغلق أبواب السجون وتُفتح بوابات الجحيم، على وطن لا يزال يبحث عن بقايا كرامة، وعن دولة كانت يومًا تُسمى: ليبيا.
نحن أمام معركة وجود، لا معركة تيارات أو حكومات. معركة بين دولة تُبنى بدماء الشهداء والمؤسسات، وبين مشروع يُبنى على الخراب والفتاوى والمال القذر.
وإذا كانت الجهات الشرعية في الغرب الليبي لا تملك القدرة أو الجرأة لكشف الحقيقة، فإن التاريخ وحده سيُسجل من وقف مع الوطن، ومن تحالف مع الشيطان.
يا أبناء ليبيا...
لا تستهينوا بالخطب المنمقة ولا تُخدعوا بالعمامة البيضاء...
فكل فتوى تُطلق من فم الغرياني تحمل بين حروفها شظايا قنابل موقوتة،
وكل كلمة يقولها تُكتب بمداد الدم، لا بالحبر،
وكل دعوةٍ لـ"نصرة المظلومين" من على لسانه، ما هي إلا عباءة يُخفي تحتها خناجر الفتنة.
إن الوطن لا يُبنى على الفتاوى، بل على المؤسسات،
ولا يُدار بالتحريض، بل بالعدالة،
ولا ينهض بالأوهام، بل بالحقائق والمحاسبة.
فاحذروا الرجل الذي نصب نفسه "مفتيًا للدم"،
فإن كان الدين بريئًا من الإرهاب...
فليتبرأ من الغرياني.
يا أبناء ليبيا...
ليس الخطر في دبابة، ولا في طائرة، ولا في صاروخ موجّه من بعيد،
بل في كلمات تُقال من على منبر شيطان،
في فتوى مسمومة تُروّج على لسان رجل لبس عباءة الدين،
وفتح أبواب الجحيم على وطنٍ لم يعرف السلام يومًا.
فتشوا في الخراب... ستجدون اسم الغرياني،
فتشوا في الدم... ستجدون توقيعه.
فتشوا في الخوف... ستجدون صوته.
فمتى نكسر هذا الصوت؟
متى نردُّ الدين إلى نقائه؟
والوطن إلى أهله؟
والعدالة إلى ميزانها؟
ويبقى السؤال الأخير:
كم من "خبيب" جديد سيُطلق سراحه غدًا؟
وكم من بريء سيدفع ثمن هذا الإفراج؟
وهل نبكي على وطن يُباع بثمن فتوى... أم ننتفض قبل أن يُصبح البكاء حرامًا؟
حين يُحاكَم الغرياني... تبدأ ليبيا أولى خطواتها نحو الخلاص.