نهب الآثار السورية بين خرافة ”مغارة الذهب” وواقع الدمار.. ماذا يحدث في درعا؟
تحوّلت سوريا خلال أكثر من عقد من الحرب من خريطةٍ مكتظة بالمواقع الأثرية الفريدة إلى ساحة مفتوحة لنهب كنوز الحضارات المتعاقبة، من الآشوريين إلى الرومان والبيزنطيين والإسلاميين. وبينما ما زالت ذاكرة السوريين مثقلة بصور المتطرفين وهم يفجّرون التماثيل ويهدمون المعابد في تدمر والرقة ودير الزور، عادت قضية الآثار لتتصدر المشهد مجددًا، ولكن هذه المرة من بوابة ما عُرف إعلاميًا بـ "مغارة الذهب" في درعا.
ضجّت مواقع التواصل خلال الأيام الماضية بشائعات عن اكتشاف مغارة ضخمة مليئة بالذهب الأثري في منطقة الحارة بريف درعا، وتداول البعض الرواية بوصفها “غنيمة” جديدة، وكأنها امتداد لسنواتٍ من ثقافة التعامل مع الآثار ككنزٍ شخصي قابل للنهب، لا كإرثٍ وطني وإنساني يجب حمايته.
أمام هذه الفوضى، أصدرت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا بيانًا رسميًا وضع النقاط على الحروف، وكشف حقيقة ما جرى في درعا، في سياق أوسع يتعلق بمحاولة الدولة استعادة السيطرة على ملف الآثار بعد سنوات من عبث التنظيمات المتطرفة وتجار الحرب.

خرافة "مغارة الذهب"… حين تتحول الشائعة إلى أداة لاستباحة التاريخ
في بيانها، أكدت المديرية أنها تتابع باهتمام بالغ ما يتم تداوله على صفحات ومنصات التواصل الاجتماعي بشأن العثور على مغارة تحتوي على كميات كبيرة من الذهب الأثري في منطقة الحارة بريف درعا، مشيرة إلى أن هذه المعلومات غير دقيقة ومضللة.
وكشف فريق المديرية، بعد فحص ميداني مباشر للموقع، أن ما تم العثور عليه ليس "مغارة ذهب"، بل مدفن أثري يعود للفترة الرومانية، ظهر أثناء أعمال حفر أساسات لأحد الأبنية في المنطقة، وهو أمر شائع في بلد مثل سوريا تزخر أراضيه بالمدافن والمقابر الأثرية.
وخلافًا للرواية المتداولة عن "كميات ضخمة من الذهب الأثري"، أوضح البيان أن ما وُجد في الموقع هو لقًى فخارية تعود للفترة نفسها، وهي من حيث القيمة الأثرية والعلمية "معتادة" في مثل هذه المواقع، وليست كنوزًا ذهبية مدفونة كما روّجت الشائعات.
المديرية شددت بوضوح على أنه "لا صحة على الإطلاق" لوجود كميات من الذهب الأثري في الموقع، في رد مباشر على كل من حاول توظيف الشائعة لإثارة البلبلة أو تشجيع الناس – بشكل غير مباشر – على الاستمرار في حفريات عشوائية بحثًا عن أوهام كنوز تحت البيوت والحقول.

الأمن يتدخل.. حماية الموقع ورسالة بأن زمن الفوضى يقترب من نهايته
أشار البيان إلى أن الجهات الأمنية المختصة قامت بتأمين المنطقة، فيما تتولى المديرية حاليًا توثيق الموقع واللقى الأثرية ودراستها وفق الأسس العلمية المعتمدة، وهو ما يعني أن الموقع دخل رسميًا في منظومة الحماية والبحث الأثري.
هذه الخطوة تحمل رسالة مزدوجة:
-
أولًا: أن الدولة – عبر أجهزتها الأثرية والأمنية – تحاول إعادة ضبط المشهد بعد سنوات من الانفلات.
-
ثانيًا: أن التعامل مع أي اكتشاف أثري لن يتم عبر "تسريبات السوشيال ميديا"، بل عبر قنوات رسمية وإجراءات علمية دقيقة.
وختمت المديرية بيانها بتأكيد أن الإرث الثقافي السوري ثروة وطنية لا يجوز التعامل معها بمنطق الغنيمة أو البيع في السوق السوداء، وأن أي اكتشاف حقيقي سيتم الإعلان عنه بشفافية عبر المنصات الرسمية فقط، في إشارة واضحة إلى رفض منطق "السرقة تحت غطاء الاكتشاف".

من الثورة إلى الفوضى الأثرية.. كيف نهبت التنظيمات المتطرفة آثار سوريا؟
منذ اندلاع الحرب السورية، تحولت مساحات واسعة من البلاد إلى مناجم مفتوحة لنهب الآثار، خصوصًا في المناطق التي سيطرت عليها التنظيمات المتطرفة مثل "داعش" وغيرها من الفصائل المسلحة.
1. تفجير المعالم وبيع الشظايا
في تدمر والرقة ودير الزور وغيرهما، لجأت الجماعات المتطرفة إلى تفجير المعابد والتماثيل بدعوى أنها "وثنية"، ثم قامت ببيع ما تبقى من قطع صغيرة وتماثيل ورؤوس منحوتة إلى شبكات تهريب دولية، لتصل لاحقًا إلى مزادات في أوروبا وأمريكا.
2. حفريات عشوائية بالجرافات
تحولت التلال الأثرية إلى مواقع تنقيب عشوائي، تُستباح بالجرافات والآلات الثقيلة بحثًا عن العملات الذهبية والتماثيل واللقى الصغيرة، في عمليات لا تعترف بعلم آثار أو طبقات تاريخية، ما تسبب في تدمير لا يمكن تعويضه للسياق التاريخي للمواقع حتى لو ظهرت بعض القطع في الأسواق.
3. شبكات تهريب عابرة للحدود
لم تكن التنظيمات وحدها المستفيدة؛ فقد نشأت شبكات تهريب عابرة للحدود تمتد من سوريا إلى دول الجوار، ومنها إلى أوروبا، يشارك فيها مهربون وتجار آثار وسماسرة دوليون، ليُباع تمثال صغير أو قطعة فسيفساء بثمن بخس في الداخل، ثم يساوي مئات آلاف الدولارات في المزادات العالمية.

"مغارة الذهب" نموذج ذهني.. لماذا تُغري الأسطورة الناس بالنبش أكثر؟
في ظل هذا السياق، جاءت شائعة "مغارة الذهب في درعا" كصدى لسنوات من الفوضى، حيث ترسخت لدى بعض السكان فكرة أن تحت كل تل أو منزل كنزًا أثريًا قابلاً للاقتلاع والبيع.
هذه العقلية ليست جديدة، لكنها تفاقمت مع:
-
الفقر والحاجة الاقتصادية في مناطق أنهكتها الحرب.
-
قصص متداولة عن أشخاص اغتنوا فجأة بعد "اكتشاف" عملات أو تماثيل.
-
استمرار نشاط تجار الآثار الذين يشترون أي قطعة يدوية قديمة بأثمان تشجع على الحفر أكثر.
من هنا تبدو أهمية بيان المديرية: ليس مجرد نفي لشائعة، بل محاولة لكسر هذا التصور الخطير الذي يربط بين الآثار والثراء السريع، ويحوّل المواطنين إلى حفّارين عشوائيين يشاركون – دون أن يدروا – في تدمير ذاكرة بلدهم.
الدولة تستعيد ملف الآثار.. لكن الطريق ما زال طويلاً
بيان مديرية الآثار والمتاحف حول "مغارة الذهب" في درعا خطوة مهمّة في اتجاه استعادة الدولة لزمام المبادرة في ملف حماية التراث، عبر:
-
التدخل السريع ميدانيًا.
-
إصدار توضيحات علنية للرأي العام.
-
تأمين الموقع وتوثيق اللقى وفق قواعد علمية.
لكن التحديات ما تزال كبيرة، فسنوات الحرب خلفت:
-
مئات المواقع المنهوبة أو المدمرة.
-
آلاف القطع المهرّبة والمتناثرة في الأسواق العالمية.
-
أجيالًا من المواطنين الذين تعاملوا مع الآثار كطريق للهرب من الفقر، لا كقيمة حضارية مشتركة.
ولذلك فإن حماية ما تبقى من آثار سوريا تحتاج إلى:
-
قوانين صارمة تُطبّق فعليًا على المنقبين والمتاجرين غير الشرعيين.
-
تعاون دولي حقيقي لاستعادة القطع المهربة.
-
برامج توعية مجتمعية تشرح للناس أن ما يُنهب اليوم من تمثال أو قطعة فخارية هو جزء من هوية أبنائهم وحاضرهم ومستقبلهم.
-

بين المتطرفين والشائعات.. من يحمي ذاكرة سوريا؟
ما جرى في درعا ليس مجرد سوء فهم حول "مغارة ذهبية"، بل علامة على أن معركة حماية الآثار لم تنتهِ بعد. فبعد أن لعبت التنظيمات المتطرفة الدور الأخطر في تدمير ونهب المواقع الأثرية، تأتي اليوم الشائعات و"سوشيال ميديا" لتستكمل المشهد، عبر ترويج قصص مثيرة عن الكنوز المدفونة، وتحويل النقاش من "كيف نحمي تراثنا؟" إلى "أين نجد الذهب؟".
وفي مواجهة ذلك، يبدو أن الكرة الآن في ملعب:
-
المؤسسات الرسمية التي يجب أن تتعامل بشفافية وسرعة مع أي اكتشاف.
-
الإعلام الجاد الذي ينبغي أن يفضح شبكات تهريب الآثار بدلًا من الترويج لأساطير المغارات الذهبية.
-
المجتمع نفسه الذي عليه أن يدرك أن ما يُنهب اليوم من تحت قدميه هو جزء من تاريخ أبنائه، لا مجرد سلعة تُباع للمجهول.
وفي النهاية، يظل السؤال مفتوحًا:
هل تنجح سوريا، الدولة والشعب، في وقف نزيف نهب آثارها بعد أن واجهت رصاص المتطرفين وقنابلهم، أم أن "مغارة الذهب" وأخواتها ستظل تغذّي خيال البعض على حساب ذاكرة بلد بأكمله؟




