صلاح توفيق يكتب : الهندسة الانتخابية.. بين دقة المصطلح وخطورة الشعار
اعتاد المصريون منذ بدايات الحياة السياسية الحديثة في مصر على أن ترافق كل مرحلة من مراحلها شعارات تعبّر عن روح المرحلة، تصوغها مؤسسات الدولة أو القوى السياسية أو الإعلاميون لتكون بمثابة العنوان الكبير و الجامع للتوجه العام في تلك الفترة.
كانت هذه الشعارات تحمل في طياتها رسائل وطنية تعبّر عن طموحات الشعب وآماله في الإصلاح والتنمية، مثل: “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد”، و“العدل أساس الملك”، و“تحيا مصر”، وغيرها من العبارات التي حفرت مكانها في الذاكرة الوطنية لديب الموطن قبل القوي السياسة .
لكن مؤخرًا، برز على الساحة شعار مختلف في لغته ومعناه، بل غريب في تركيبه ومضمونه في نفس الوقت وهو ما سُمّي بـ “الهندسة الانتخابية”، وهو شعار أثار الجدل والريبة بين عموم المصرين ومنهم أنا شخصيا وأصبح هذا الشعار الغريب محل نقاش بين المتابعين والمحللين لما يحمله من إيحاءات تتجاوز مجرد الحديث السياسي إلى ما هو أخطر: التشكيك في نزاهة الإرادة الشعبية. للشعب المصري في انتخابات برلمانية لدولة في حجم مصر وتاريخها العريق
ما معنى الهندسة الانتخابية؟
بعرف الجميع ان الهندسة في معناها العلمي واللغوي هو فنّ التصميم والرسم متناهي الدقة والتخطيط لشيء مسبقًا بناءً على معايير حسابية دقيقة ومحددة بما يتناسب مع وجهة نظر المصمم الذي هندس الرسم الهندسي .
وعندما يُضاف إليها مصطلح “الانتخابية”، فإنها تكتسب دلالة مقلقة، إذ توحي بأن العملية الانتخابية برمتها مُخطط لها مسبقًا بدقة، وأن النتائج معلومة قبل أن تبدأ صناديق الاقتراع، وكأننا أمام انتخابات مرسومة “هندسيًا” لتحديد من سيفوز ومن سيخسر وهو الامر الخطير في الشعار الذي انتشر بشكل غريب ويستغل للتشكيك في العملية الأنتخابية .
من هذا المنطلق فأن هذا الشعار او المصطلح – في سياقه السياسي – ليس بريئًا، لأنه ينزع الثقة من المواطنين في نظامهم الانتخابي والسياسي، ويقدّم صورة ظالمة ومجتزأة لمشهد انتخابي يشهد رقابة قضائية ومتابعة إعلامية ومشاركة حزبية واسعة.
من أين جاء المصطلح؟
لم أعرف من صاغ مصطلح “الهندسة الانتخابية”، إذ لم يسبق أن تبنته جهة رسمية أو مؤسسة سياسية مصرية لكنة مصطلح استغل بطريقة سيئة لاهانة الناخب المصري وانتخابات برلمانة
ويرجّح المراقبون أنه جاء من دوائر أو شخصيات معارضة تحاول تمرير رسائل تشكيكية في المؤسسات، خصوصًا في أوقات الحملات الانتخابية التي تشهد عادة تنافسًا سياسيًا محتدمًا.
ولعل خطورة الشعار لا تكمن فقط في تلميحه، بل في قدرته على التأثير في وعي الجمهور، فالمواطن البسيط الذي يسمع مصطلح “الهندسة الانتخابية” قد يفهم أن العملية الانتخابية لا تُدار بإرادة الناخب، بل بخطط مرسومة مسبقًا في غرف مغلقة، وهو ما يُعد ظلمًا للحقيقة وللمشاركة الشعبية التي هي أساس أي نظام ديمقراطي.
الشعارات السياسية في مصر عبر العقود
للتاريخ السياسي المصري علاقة وثيقة بالشعارات التي كانت تعبّر عن هوية المرحلة واتجاهها العام.
ففي الخمسينيات، كان شعار “الحرية والكرامة” يعبر عن مرحلة ما بعد ثورة يوليو، وفي السبعينيات برز شعار “الانفتاح الاقتصادي”، الذي عكس مرحلة التحول نحو الانفتاح التجاري.
وفي التسعينيات، انتشرت شعارات مثل “التنمية والبناء” و“مصر المستقبل”، بينما جاءت مرحلة ما بعد 2013 بشعارات تعبر عن الاستقرار واستعادة هيبة الدولة مثل “تحيا مصر” و“الجمهورية الجديدة”.
أما مصطلح “الهندسة الانتخابية”، فهو خارج هذا السياق تمامًا، لأنه لا يعبر عن بناء أو مشروع وطني، بل يطرح اتهامًا مستترًا للنظام الانتخابي ذاته.
بين الشعار والواقع
تسعى الدولة المصرية في السنوات الأخيرة إلى تعزيز المشاركة السياسية والتمثيل البرلماني المتوازن، عبر قوانين انتخابية خضعت للنقاش المجتمعي، وإشراف قضائي كامل على اللجان الانتخابية.
ومع ذلك، فإن تداول مصطلحات مثل “الهندسة الانتخابية” يهدف إلى تشويه الصورة الذهنية للمواطن المصري وإضعاف ثقته في أن صوته مؤثر في النتيجة النهائية.
والحقيقة أن الانتخابات البرلمانية في مصر – كغيرها من دول العالم – قد تشهد تنافسًا سياسيًا قويًا، لكن نتائجها لا يمكن اختزالها في رسم مسبق أو تخطيط هندسي كما يروّج البعض.
خطورة التلاعب بالمصطلحات
تُعد المصطلحات والشعارات أدوات قوية لتشكيل الوعي، فهي تختصر أفكارًا معقدة في كلمات بسيطة يسهل تكرارها.
ومن هنا تكمن خطورة استخدام تعبير مثل “الهندسة الانتخابية” الذي يمكن أن يُستغل لتغذية أفكار سلبية ضد النظام السياسي والدولة، وتشكيك المواطنين في مؤسساتهم، ما يؤدي إلى إضعاف الثقة العامة وزعزعة الاستقرار.
لذلك، فإن مسؤولية النخب والمثقفين والإعلاميين اليوم هي تفكيك هذه المصطلحات الغامضة وشرح أبعادها الحقيقية للرأي العام، حتى لا تتحول إلى أدوات تضليل فكري وسياسي.
فنون زراعة الشك والريبة في النفوس
إن شعار كمثل شعار “الهندسة الانتخابية” ليست مجرد شعار سياسي، بل عبارة مصنوعة بعناية لزرع الشك والريبة في نفوس الناس، في وقت تحتاج فيه مصر إلى تعزيز الثقة والوعي والمشاركة الإيجابية.
ولذلك يجب أن تُقابل مثل هذه المصطلحات بالوعي والتحليل لا بالترديد، لأن الشعارات التي تُبنى على التشكيك لا تصنع وعيًا وطنيًا، بل تُضعف الثقة بين المواطن ومؤسساته.
أما الشعارات الحقيقية، فهي تلك التي تحفّز على البناء، وتوحّد الشعب حول هدف وطني جامع، وتؤمن بأن المشاركة هي أساس التطور، لا الشك ولا الاتهام.





