معركة تشكيل الحكومة العراقية تبدأ وسط تعقيدات سياسية وطائفية مستمرة

في مشهد سياسي يتكرر منذ ما يقرب من عقدين، يدخل العراق مرة أخرى مرحلة شديدة الحساسية عقب إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية. فمع انتخاب مجلس النواب الجديد، تنطلق مباشرة معركة اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، وهي مرحلة غالبًا ما تشهد مفاوضات معقدة طويلة المدى بين القوى السياسية المختلفة، نتيجة نظام المحاصصة الذي يطغى على بنية الحكم في البلاد.
ائتلاف السوداني يتصدر… لكن الطريق نحو تشكيل الحكومة ليس سهلاً
أظهرت النتائج الأولية التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تصدّر الائتلاف الذي يقوده رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. ورغم هذا التقدم، إلا أن المشهد لا يضمن له تلقائيًا القدرة على تشكيل الحكومة الجديدة، إذ يواجه مهمة صعبة تتمثل في حشد دعم الأطراف المنافسة داخل البيت الشيعي نفسه، لضمان حصوله على ولاية ثانية.
ففي برلمان مكوّن من 329 مقعدًا دون أي غالبية مطلقة، ستحتاج الكتل الكبرى إلى الدخول في مفاوضات قد تمتد أسابيع أو حتى أشهر لتشكيل تحالف واسع قادر على تسمية رئيس الوزراء المقبل.
نظام المحاصصة… عقدة الحكم في العراق منذ 2005

منذ أول انتخابات جرت عام 2005 بعد سقوط نظام صدام حسين، ترسخ في العراق نظام يقوم على توزيع السلطات وفق الانتماءات الطائفية والسياسية:
-
رئيس الوزراء: شيعي
-
رئيس الجمهورية: كردي
-
رئيس البرلمان: سُني
هذا النظام جعل عملية تشكيل الحكومة تتطلب توافقات معقدة بين القوى السياسية النافذة، وغالبًا ما تؤدي إلى إبعاد مرشحين أقوياء لصالح أسماء يمكن للجميع قبولها.
كما تستغل الأحزاب عدد مقاعدها كأوراق مساومة، ويحدث كثيرًا أن ينتقل النواب من كتلتهم إلى أخرى بحثًا عن مكاسب سياسية.
إرث الحكومات السابقة… وتعقيدات اختيار رئيس الوزراء
شهد العراق في دورات انتخابية عديدة خلافات وصلت إلى حالة جمود سياسي امتدت لأشهر. وتاريخيًا لم ينجح أي رئيس وزراء في الحصول على ولايتين سوى نوري المالكي بين عامي 2006 و2014، رغم الاتهامات التي طالته بالفساد وإدارة البلاد نحو انقسام طائفي حاد وترك المجال أمام انتشار داعش.
ورغم تراجع شعبيته، ما يزال المالكي اليوم قوة سياسية مؤثرة قادرة على تعطيل أو تمرير أي اتفاق حكومي.
السيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة الجديدة
بعد أن جاء السوداني إلى الحكم عام 2022 بدعم من "الإطار التنسيقي"، عاد اليوم هذا التحالف الشيعي ليواجه انقسامًا داخليًا حول إمكانية دعم السوداني لولاية جديدة.
ويبدو القلق جليًا لدى بعض الأحزاب الشيعية من توسع نفوذ رئيس الوزراء، خصوصًا مع توجهه نحو سياسة توازن دقيقة بين واشنطن وطهران، الحليفين المتصارعين على النفوذ داخل العراق.
وفي بلد تتحكم فيه المصالح السياسية والانقسامات الطائفية، يصبح كل السيناريوهات مطروحة:
-
قد ينجح السوداني في تشكيل تحالف يضمن بقاءه في السلطة.
-
أو قد تتحد القوى الشيعية الأخرى ضده وتطرح بديلاً جديدًا.
وتشير مصادر داخل "الإطار التنسيقي" إلى اتفاق مبدئي على تشكيل الكتلة الأكبر التي تتحكم في اختيار رئيس الوزراء ورئيس البرلمان ونائبيه ورئيس الجمهورية.
ماذا حدث في الدورات السابقة؟ دروس من الماضي
انتخابات 2010
-
حصل إياد علاوي على 91 مقعدًا، وهو العدد الأكبر.
-
جاء المالكي ثانيًا بـ89 مقعدًا.
-
رغم ذلك، تمكّن المالكي بعد أشهر من المفاوضات من ضمان ولاية ثانية.
هذه التجربة تؤكد أن الفوز بالانتخابات لا يعني الفوز برئاسة الحكومة.
انتخابات 2021
شهدت هذه الدورة أزمة سياسية استمرت ثلاثة أشهر قبل انعقاد أول جلسة للبرلمان، بسبب فوز مقتدى الصدر بـ73 مقعدًا وتنديد قوى موالية لإيران بالنتائج.
وانتهت الأزمة بانسحاب كامل للتيار الصدري من البرلمان بعد صدامات دامية في الشارع، ما أعاد تشكيل الخريطة السياسية لصالح الإطار التنسيقي.
العراق أمام مفترق حاسم
يدخل العراق مرحلة جديدة من المفاوضات التي قد تكون امتدادًا لنسق سياسي اعتاد التعقيد. فاختيار رئيس الوزراء المقبل قد يحدد شكل العراق السياسي والاقتصادي للأعوام الأربعة القادمة، سواء استمر السوداني في قيادة البلاد أو ظهر مرشح جديد تفرضه التوازنات السياسية.
ومع غياب غالبية مطلقة، وصراع النفوذ، وتعدد اللاعبين المحليين والإقليميين، يبدو أن الطريق نحو الحكومة الجديدة سيكون طويلًا، وربما يحمل مفاجآت ثقيلة كما اعتاد العراقيون منذ عام 2005.

