يعقوب بيرل بين الاتهام بالتجسس ومناهضة الصهيونية: كيف تُحوَّل المعارضة اليهودية إلى ملف أمني؟

فتح اعتقال الإسرائيلي–الأمريكي يعقوب بيرل (49 عامًا) بشبهة العمل لصالح الاستخبارات الإيرانية نقاشًا أوسع من واقعة أمنية معزولة. فالرجل معروف بمشاركاته العلنية في وقفات تضامن مع الفلسطينيين بالمغرب، وبخطاب ديني–سياسي يعلن فيه أن "اليهود الحقيقيين ضد الصهيونية". هنا تُطرح أسئلة جوهرية: أين تنتهي حرية التعبير والاحتجاج، وأين يبدأ توصيف “التجسس”؟ وهل تستخدم تل أبيب تهمة الارتباط بخصومها (إيران) لإسكات أصوات يهودية مناهِضة للصهيونية داخل وخارج إسرائيل؟
1) روايتان متصادمتان: أمن قومي أم تجريم للاختلاف؟
-
السردية الرسمية الإسرائيلية: الشاباك يتحدث عن وصول بيرل إلى إسرائيل صيف 2025 لتنفيذ “مهام جمع معلومات”، ومحاولات سابقة لـ“تجنيد” أفراد لصالح إيران، وتحويلات مالية رقمية مشفّرة. فإذا ثبت ذلك قضائيًا، نحن أمام ملف أمني بامتياز.
-
سردية بيرل وأنصاره: نشاطه علني في وقفات مؤيدة لفلسطين، وحجته لاهوتية–أخلاقية تُميّز بين اليهودية والصهيونية، وترى مقاومة الفلسطينيين “واجبًا أخلاقيًا يحول دون تنفيذ المخطط الصهيوني”.
الهوة بين السرديتين ليست تفصيلًا؛ فهي تحدد ما إذا كان بيرل “ناشطًا سياسيًا/دينيًا” أو “قناة اختراق استخبارية”.
2) أنماط متكرّرة: من وصم المعارضة إلى “استخبارات الخصم”
تاريخيًا، تميل دول كثيرة – لا إسرائيل وحدها – إلى أمننة المعارضة عندما تتقاطع مع صراع خارجي. في الحالة الإسرائيلية، تتخذ هذه المعادلة طابعًا مضاعفًا:
-
ربط الأصوات اليهودية الرافضة للصهيونية بخصوم إقليميين (إيران، حزب الله…) لتجريدها من شرعية “الضمير الديني/الأخلاقي” وتحويلها إلى “اختراق عدائي”.
-
استخدام قوانين أمنية واسعة (التجسس، الاتصال بعميل أجنبي، المساس بالأمن) التي يتيح تعريفها المرن ضم أنشطة قد تكون في ظروف أخرى تعبيرًا سياسيًا.
النتيجة: تتقلص المنطقة الرمادية بين التعبير المشروع والجريمة الأمنية، ويُعاد تعريف الاحتجاجات المناهِضة للحرب ولقمع غزة في إطار “تبرير العدو” أو “تيسير عمله”.
3) لماذا تُحرج الأصوات اليهودية المناهضة للصهيونية الرواية الإسرائيلية؟
-
ضرب التلازم (يهودي = صهيوني): بيرل ومن يشبهه فكريًا يفككون الركيزة الدعائية التي تساوي بين الهوية الدينية والمشروع السياسي، ما ينسف خطاب “تمثيل إسرائيل لليهود” عالميًا.
-
إعادة تعريف الصراع أخلاقيًا: حين يقول ناشط يهودي إن جرائم الحرب لا تمثل اليهودية، يصبح الجدل قيمياً/لاهوتيًا لا أمنيًا فحسب.
-
تأثير تعبوي عابر للطوائف: صور يهود مناهضين للصهيونية في وقفات تضامن مع غزة تصنع تحالفات أخلاقية دولية تربك السردية الرسمية، وتضعها في خانة الدولة المعزولة أخلاقيًا.
4) المغرب كسياق مضاعِف للحساسية
إقامة بيرل في المغرب ومشاركته في وقفات بالرباط يضيفان بعدًا دبلوماسيًا:
-
المغرب تاريخيًا فضاء تعايش يهودي–إسلامي، وهذا ما استحضره بيرل في لافتاته وشهاداته.
-
حساسية ملف العلاقات مع إسرائيل: نشاط مناهض للصهيونية يقوده يهودي على أرض دولة عربية تربطها علاقات بإسرائيل يضاعف الضجيج السياسي، ويُسقط محاولة تل أبيب حصر المعارضة في “خارج اليهودية”.
5) قانونيًا: ما الذي يصنع الفارق بين “رأي صادم” و“تجسس”؟
ثلاثة عناصر عادةً تسلّم ملفًا من ساحة التعبير إلى ساحات التجريم:
-
صلة فعلية بجهة استخباراتية معادية (تكليف/تمويل/تشفير/قنوات اتصال).
-
طبيعة المعلومات: هل هي علنية أم حساسة؟ هل تُحدِث خطرًا ملموسًا على أفراد/منشآت؟
-
القصد الجنائي: دافع أيديولوجي لا يُعفي بذاته، لكنه لا يكفي لإثبات التجسس إن غابت بقية أركان الجريمة.
بمعنى أوضح: حتى أكثر الآراء حدّة – دينية كانت أم سياسية – لا ترقى قانونيًا إلى “تجسس” ما لم تُستوفَ الأركان أعلاه. وهنا دور القضاء لا الإعلام.
6) المخاطر المترتبة على “أمننة” المعارضة
-
خنق المجتمع المدني اليهودي المتنوع عالميًا، وإطلاق رسالة مفادها أن نقد الصهيونية يساوي خيانة.
-
تسييس ملفات العدالة الجنائية بما يُفقد الاتهام مصداقيته حتى في الحالات التي تكون فيها دلائل حقيقية.
-
تعزيز سرديات الخصوم بأن إسرائيل تُجرّم المختلفين داخل اليهودية وتُحوّلهم إلى عملاء، ما يغذّي مزيدًا من الاستقطاب.
7) ما الذي ينبغي مراقبته في قضية بيرل؟
-
تفاصيل لائحة الاتهام والأدلة المادية (قنوات الاتصال، طبيعة المعلومات، التحويلات).
-
اتساق الإجراءات مع المعايير القضائية (علانية الجلسات بقدر الإمكان، إتاحة الدفاع، شفافية الأدلة).
-
الفصل بين نشاطه العلني المناهض للصهيونية وأي أفعال قد تُثبتها المحكمة كجرائم أمنية فعلًا.
وجود تيار يهودي ديني–أخلاقي يرفض مساواة اليهودية بالصهيونية.
قضية يعقوب بيرل تقع عند تقاطع ثلاثة مسارات: صراع استخباراتي مستعر بين إسرائيل وإيران، وحرب على السرديات بعد غزة، ووجود تيار يهودي ديني–أخلاقي يرفض مساواة اليهودية بالصهيونية.
إذا أثبتت المحاكمة صلة بيرل الفعلية بأجهزة إيرانية وتزويدها بمعلومات حساسة، فسيكون ملفًا جنائيًا واضحًا. أما إذا انحصر “الدليل” في نشاط علني ولافتات وبيانات ومعارضات فكرية، فسنكون أمام نموذج جديد لــتجريم المعارضة تحت لافتة الأمن القومي. في الحالتين، ستُستخدم القضية كذخيرة في الحرب على الرواية: إما لتأكيد اختراق الخصوم، أو لفضح تسييس العدالة لإسكات الأصوات اليهودية المناهِضة للصهيونية.