غاز غزة بين السياسة والاقتصاد: محادثات أمريكية إسرائيلية إماراتية لإعادة إعمار القطاع عبر ثروته البحرية

في خضم الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب الأخيرة على قطاع غزة، تعود إلى الواجهة واحدة من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي: ملف الغاز الطبيعي البحري قبالة سواحل غزة. هذا المورد الذي ظل لعقود حبيس الحسابات السياسية والأمنية، بات اليوم مطروحًا – من جديد – كأداة محتملة لتمويل إعادة إعمار القطاع المنكوب، وسط محادثات ثلاثية تجمع الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات، وفق ما كشفه موقع Middle East Eye نقلًا عن مسؤولين غربيين وعرب.
الحديث لا يدور فقط حول اقتصاد وطاقة، بل عن رؤية سياسية جديدة تحاول إعادة رسم مستقبل غزة، في ظل واقع إنساني وصفته الأمم المتحدة بأنه يرقى إلى الإبادة الجماعية، وتقديرات أممية تشير إلى أن كلفة إعادة الإعمار قد تصل إلى 70 مليار دولار.
محادثات ثلاثية خلف الكواليس: واشنطن وتل أبيب وأبوظبي
صيغة استثمارية جديدة لغاز غزة
كشفت المصادر أن المحادثات الجارية تتناول إمكانية استغلال أرباح الغاز الطبيعي البحري في غزة لتمويل إعادة الإعمار، عبر صيغة استثمارية مقترحة تقوم على دخول شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) كمستثمر رئيسي في حقول الغاز غير المطوّرة قبالة سواحل القطاع.
ووفق هذه الصيغة، تتولى أدنوك تطوير الحقول، بينما تُخصَّص العوائد المالية – أو جزء كبير منها – لتمويل مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية، في محاولة لربط التعافي الاقتصادي بمورد فلسطيني خالص طال تعطيله.
محادثات أولية بلا التزامات رسمية
تشدد المصادر على أن هذه المباحثات لا تزال في مراحلها الأولية، ولم تُسفر حتى الآن عن أي التزامات رسمية أو اتفاقات موقعة، إلا أن إعادة طرح الفكرة في ديسمبر الجاري تعكس تحولًا في التفكير السياسي والاقتصادي لدى الأطراف المعنية، خصوصًا بعد فشل السيناريوهات التقليدية لإدارة ما بعد الحرب في غزة.

جذور القصة: اكتشاف الغاز الفلسطيني منذ عام 2000
حقل واعد عُلّق لعقود
يعود اكتشاف الغاز البحري قبالة سواحل غزة إلى عام 2000، عندما تبيّن وجود احتياطات تجارية واعدة، إلا أن المشروع سرعان ما تعثر بفعل القيود الإسرائيلية، والانقسامات السياسية الفلسطينية، وتعقيدات الأمن الإقليمي.
توزيع حقوق التطوير
بحسب المعطيات، تُقسَّم حقوق تطوير الحقول بين:
-
صندوق الثروة السيادية للسلطة الفلسطينية ممثلًا في منتدى الاستثمار الفلسطيني
-
شركة Consolidated Contractors
-
نحو 45% مخصصة لشريك دولي
هذا الهيكل فتح الباب منذ البداية أمام تدخل أطراف إقليمية ودولية، لكن دون ترجمة فعلية على الأرض.
جدوى اقتصادية مؤكدة: أرقام تكشف حجم الفرصة
أرباح بمليارات الدولارات
يوضح الخبير في غاز شرق المتوسط مايكل بارون، مؤلف كتاب قصة غزة البحرية، أن المشروع مجدٍ اقتصاديًا بشكل واضح، مشيرًا إلى أن:
-
تكلفة تطوير الحقل تُقدَّر بنحو 750 مليون دولار
-
العوائد الإجمالية المتوقعة تصل إلى 4 مليارات دولار
-
متوسط أرباح سنوية يقارب 100 مليون دولار على مدار 15 عامًا لصالح السلطة الفلسطينية
الغاز… الثروة الفلسطينية الأهم
يرى بارون أن الغاز الطبيعي يمثل المورد الطبيعي الأكثر قيمة للفلسطينيين حاليًا، وأن استغلاله لا يحقق فقط عوائد مالية، بل يوفّر أساسًا اقتصاديًا مستقلًا يمكن البناء عليه في عملية إعادة الإعمار، بعيدًا عن المساعدات المشروطة أو التمويل السياسي.

إعادة إعمار غزة: فجوة التمويل والبدائل المطروحة
70 مليار دولار… رقم صادم
تقدّر الأمم المتحدة كلفة إعادة إعمار غزة بالكامل بنحو 70 مليار دولار، وهو رقم يعكس حجم الدمار غير المسبوق الذي طال:
-
المساكن
-
البنية التحتية
-
المستشفيات
-
المدارس
-
شبكات المياه والكهرباء
غياب رؤية شاملة من واشنطن وتل أبيب
حتى الآن، لم تتقدم الولايات المتحدة وإسرائيل بخطة متكاملة لإعادة إعمار القطاع، بل ركزت بعض الطروحات على:
-
إنشاء وحدات سكنية مؤقتة
-
في النصف الإسرائيلي المحتل من غزة
-
بإشراف فريق أمريكي يضم شخصيات قريبة من جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي السابق
هذه الرؤية أثارت مخاوف واسعة من تكريس واقع جغرافي وسياسي جديد يترك غزة منقسمة وغير قابلة للحياة.
دور الخليج: الإمارات في الصدارة
تردد خليجي… واستثناء إماراتي
تشير المصادر إلى أن دول الخليج، بما فيها دول مؤثرة، أبدت ترددًا في تمويل أي خطة قد تؤدي إلى تقسيم غزة أو فرض حلول مؤقتة لا تعالج جذور الأزمة.
في المقابل، برزت الإمارات العربية المتحدة كالشريك الخليجي الأكثر استعدادًا للعمل مع واشنطن وتل أبيب، مستفيدة من:
-
علاقاتها السياسية بعد اتفاقيات التطبيع
-
خبرتها الاستثمارية في قطاع الطاقة
-
مكانتها كـأكبر مانح إنساني لقطاع غزة
لماذا الإمارات تحديدًا؟
يرى مراقبون أن أبوظبي تسعى للعب دور اقتصادي-سياسي مركزي في مرحلة ما بعد الحرب، خاصة في ظل:
-
عدم التزام قطر والسعودية ماليًا بخطط إعادة الإعمار حتى الآن
-
رغبة الإمارات في تعزيز حضورها في غاز شرق المتوسط
غاز شرق المتوسط: تشابك المصالح الإقليمية
ربط غاز غزة بالشبكة الإقليمية
أكدت المصادر وجود محادثات موازية لربط غاز غزة بشبكة الغاز في شرق البحر المتوسط، ما يفتح المجال أمام:
-
التصدير عبر مصر
-
أو الدمج في منظومة إقليمية أوسع
إسرائيل ومصر… صفقات بمليارات
في سياق متصل، صادقت إسرائيل مؤخرًا على تصدير غاز بقيمة 35 مليار دولار إلى مصر، التي تعاني من تراجع إنتاج حقولها البحرية، ما يعكس إعادة ترتيب خريطة الطاقة في المنطقة.
انسحاب إماراتي سابق… وعودة محسوبة
ورغم انسحاب أدنوك وبي بي من صفقة استثمارية بقيمة ملياري دولار في مشروع NewMed Energy الإسرائيلي عام 2024 خلال الحرب على غزة، إلا أن اهتمام الإمارات بالمنطقة لم يتراجع، بل أُعيد توجيهه نحو ملفات أكثر حساسية وتأثيرًا، وعلى رأسها غزة.
صمت رسمي… ورسائل غير معلنة
حتى لحظة نشر التقرير، رفضت السفارات الإسرائيلية والإماراتية في واشنطن ووزارة الخارجية الأمريكية التعليق على هذه المحادثات، في مؤشر على:
-
حساسية الملف
-
تشابك أبعاده السياسية والإنسانية
-
وعدم نضوج التفاهمات بعد
هل يتحول غاز غزة من حلم مؤجل إلى رافعة إنقاذ؟
بين الأرقام الاقتصادية الواعدة، والدمار الإنساني غير المسبوق، تقف غزة اليوم أمام مفترق طرق تاريخي. فإما أن يبقى غازها البحري ثروة معطلة رهينة السياسة، أو يتحول – إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية – إلى رافعة اقتصادية تموّل إعادة الإعمار وتعيد للقطاع شيئًا من الاستقلال والكرامة.
لكن السؤال الأهم يبقى:
هل ستُستخدم هذه الثروة لصالح الفلسطينيين فعلًا، أم ستكون مجرد ورقة جديدة في لعبة المصالح الإقليمية والدولية؟

