السابع من أكتوبر.. كسَر وهم «الدولة الآمنة» وفتح باب هجرة الإسرائيليين نحو المجهول

في واحدة من أكبر الهزات التي أصابت المشروع الصهيوني منذ قيامه، لم يكن السابع من أكتوبر مجرد عملية عسكرية، ولا مجرد “اختراق أمني” كما يسميه الاحتلال، بل كان لحظة تاريخية كسرت الأسطورة المركزية التي قامت عليها إسرائيل: أسطورة البقاء في وطن محتل يُسوَّق بوصفه “الديمقراطية الآمنة الوحيدة في الشرق الأوسط”.
هذا اليوم لم يهز الحكومة وحدها، بل كسر الإرادة النفسية للمستوطنين، وأعاد طرح السؤال الوجودي الذي تهرب منه إسرائيل منذ 1948:
هل يمكن العيش بأمان في وطن مسلوب، محاط بالعداء، ومبني على القوة وحدها؟
وبعد الحرب في غزة، وضرب إيران لعمق تل أبيب لأول مرة في تاريخها، انفجرت المخاوف القديمة، وتحولت إلى موجة هجرة واسعة تُهدد تركيبة الدولة ومشروعها السياسي.
هروب جماعي.. حين يقرر “شعب الاحتلال” أن البقاء صار خطرًا
خلال العامين الماضيين، غادر أكثر من 80 ألف إسرائيلي البلاد، وهو أعلى رقم منذ الانتفاضة الثانية، ومن المتوقع أن يتكرر الرقم أو يزيد في 2025.
وهؤلاء ليسوا من الطبقات الهشة، بل:
-
علماء وباحثون
-
مهندسو “الهايتك”
-
أطباء
-
طلاب دراسات عليا
-
أسر شابة متعلمة
الفئة التي يعتمد عليها الاقتصاد الإسرائيلي في إنتاج 50% من القوة التكنولوجية، وثلث الضرائب، و70% من الابتكار في الشركات الناشئة.
المفارقة أن هذه الفئة تحديدًا هي الأكثر خوفًا وغضبًا بعد السابع من أكتوبر، لأنها اكتشفت أن “الدولة القوية” التي يشيد بها قادتها غير قادرة على حماية حدودها ولا سمائها ولا عمقها.
المشهد الإقليمي.. مقاومة تكسر الردع وإيران تضرب لأول مرة

بالتوازي مع الانهيارات داخل إسرائيل، تبدو المنطقة وكأنها تتجه إلى إعادة صياغة ميزان القوى بالكامل:
1. المقاومة كسرت الردع الإسرائيلي
هجوم 7 أكتوبر لم يحقق فقط اختراقًا ميدانيًا، بل ضرب الأسطورتين اللتين قام عليهما الجيش الإسرائيلي:
-
الاستخبارات التي لا تخطئ
-
الجيش الذي لا يُهزم
ومع الاعترافات الرسمية الإسرائيلية التي صدرت خلال الأشهر اللاحقة — ومنها الإقالات الجماعية التي أعلنها رئيس الأركان — أصبحت الصورة واضحة:
المقاومة كسرت “ظهر الأمن الإسرائيلي”.
2. إيران تغيّر قواعد اللعبة
للمرة الأولى منذ قيام إسرائيل، تسقط صواريخ إيرانية مباشرة على تل أبيب.
هذا الحدث وحده أعاد تعريف “الخطر الوجودي” في الوعي الإسرائيلي، وفتح الباب أمام أوسع نقاش حول مستقبل الدولة وقدرتها على البقاء.
3. محور المقاومة أصبح لاعبًا إقليميًا لا يمكن تجاهله
مع اشتعال جبهات غزة ولبنان واليمن والعراق، أصبحت إسرائيل محاصرة استراتيجيًا لأول مرة منذ 1948، ما جعل الكثير من الإسرائيليين يشعرون أن استمرار الإقامة في هذه الأرض “مقامرة غير محسوبة”.
انهيار الداخل.. المجتمع الإسرائيلي يفقد ثقته بقيادته
الاستطلاعات الأخيرة في تل أبيب تؤكد أن المجتمع الإسرائيلي:
-
فاقد الثقة في حكومة نتنياهو
-
فاقد الثقة في جيشه
-
فاقد الثقة في المستقبل الأمني للدولة
80% من الإسرائيليين يعتقدون أن “ما قبل 7 أكتوبر لن يعود”.
ومع ازدياد أثمان المعيشة، وتراجع الأمن الداخلي، وارتفاع معدلات القلق والاكتئاب، أصبح البقاء في إسرائيل بالنسبة لعدد كبير من العائلات “مجازفة”.
تأثير الهجرة على الانتخابات الإسرائيلية القادمة.. ضربة سياسية لا يمكن تجنبها
الهجرة ليست مجرد أزمة اجتماعية أو اقتصادية، بل قنبلة سياسية ستنفجر مع أول انتخابات قادمة:
1. خسارة المعسكر اليساري لأصوات حاسمة
معظم المغادرين:
-
علمانيون
-
يساريون
-
معارضون لنتنياهو
-
سكان المدن الكبرى (تل أبيب – حيفا)
وهؤلاء لا يحق لهم التصويت من الخارج وفق القانون الإسرائيلي (إلا للدبلوماسيين والجيش فقط)، مما يجعل الهجرة “هدية سياسية مجانية” لمعسكر اليمين.
2. تعزيز نفوذ المتدينين واليمين المتطرف
بقاء الشرائح اليمينية الأكثر تشددًا داخل إسرائيل سيزيد سيطرة:
-
الليكود
-
الصهيونية الدينية
-
الأحزاب الحريدية
وهذا يعني أن الحكومة القادمة — أيًا كانت — ستكون أكثر تطرفًا، وأكثر استعدادًا:
-
لرفض أي حل سياسي
-
لتمديد الحرب
-
لتوسيع الاستيطان
-
ولإعادة إنتاج أخطاء ما قبل 7 أكتوبر
3. الدولة تتجه نحو مجتمع أقل تعليمًا وأكثر تطرفًا
خروج 80 ألف من أصحاب المهارات العالية يعني:
-
اقتصاد أضعف
-
ابتكار أقل
-
مجتمع أقل انفتاحًا
-
دولة أكثر دينية ومحافظة
وهذا كله يقوّض قدرة إسرائيل على البقاء كدولة “تكنولوجية، غربية، متقدمة” كما كانت تُسوق نفسها منذ عقود.
لحظة تاريخية كسرت الوهم، وكشفت أن “الدولة التي لا تُهزم” ليست سوى برج زجاجي
السابع من أكتوبر لم يكن مجرد هجوم…
بل لحظة تاريخية كسرت الوهم، وكشفت أن “الدولة التي لا تُهزم” ليست سوى برج زجاجي.
اليوم يهاجر الإسرائيليون ليس لأنهم فقراء أو بلا فرص، بل لأنهم لم يعودوا يثقون في قدرة دولتهم على حمايتهم.
وبين هجرة العقول، وانهيار الثقة بالجيش، واضطراب السياسة، وتوسع نفوذ المقاومة إقليميًا — يبدو أن إسرائيل تواجه أخطر مرحلة في تاريخها منذ قيامها.
وما يجري اليوم قد يكون بداية تحوّل تاريخي في شكل المنطقة ومستقبل الصراع كله.

