خلف الكواليس… صراع شرس في سوق الهواتف العربية يقوده “تخويف المستهلك” بالتطبيقات الإسرائيلية

حرب الشائعات تشتعل: شركات الهواتف تتنافس عبر تخويف المستهلك بتطبيقات تجسس إسرائيلية!
في أسواق الهواتف المحمولة العربية لم تعد الحرب بين الشركات تدور فقط حول المواصفات والسعر والجودة، بل امتدت إلى مساحة أخطر: حرب الشائعات والتخويف السياسي والأمني. من بين أكثر الشائعات انتشارًا في السنوات الأخيرة ما يتعلّق بـ"وجود تطبيق إسرائيلي مزروع داخل نوع معيّن من الهواتف"، أو "هواتف تتجسّس لصالح إسرائيل أو جهات معادية"، وهي شائعات تُستخدم أحيانًا كسلاح غير شريف في صراع شركات إنتاج وبيع الهواتف، أو من منافسين وتجار يسعون لتحقيق مكاسب سريعة على حساب وعي المستهلك وأمنه النفسي.
أولًا: سوق الهواتف المحمولة في الدول العربية.. منافسة شرسة تشعل كل الأساليب
تتمتع الأسواق العربية، خصوصًا في دول مثل مصر، السعودية، الإمارات، المغرب، الجزائر، العراق، والأردن، بكثافة سكانية كبيرة، ونسبة مرتفعة من الشباب، وانتشار واسع لوسائل التواصل الاجتماعي. هذه العوامل جعلت سوق الهواتف المحمولة في المنطقة:
-
واحدة من أكثر الأسواق نموًا في العالم
-
ميدانًا مفتوحًا لمئات الموديلات والعشرات من العلامات (صينية – كورية – أمريكية – هندية)
-
ساحة تنافس عنيف بين الشركات الكبرى والعلامات الصاعدة
ومع هذا التنافس الحاد، لا تكتفي بعض الشركات أو الوكلاء أو التجار بالوسائل التقليدية (الإعلانات، العروض، التخفيضات)، بل يلجأ البعض إلى تشويه سمعة العلامات المنافسة باستخدام أدوات عاطفية حساسة جدًا في المجتمع العربي، أبرزها:
"فزاعة إسرائيل" واتهامات التجسس والاختراق الأمني.
ثانيًا: كيف تُصنع شائعة "تطبيق إسرائيلي" على هاتف معيّن؟
1. نقطة البداية: منشور على فيسبوك أو واتساب
غالبًا ما تبدأ القصة بجملة من نوع:
"تحذير هام… لا تشتروا هاتف (…)، اكتشفوا أن عليه تطبيقًا إسرائيليًا يتجسس على المسلمين والعرب!"
يُرفق المنشور أحيانًا بصورة لتطبيق مجهول، أو لقطة شاشة غير واضحة، أو حتى صورة مفبركة لشاشة إعدادات الهاتف.

2. الاستغلال النفسي والسياسي
هذه الشائعة تعتمد على عدة نقاط حساسة في الوعي العربي:
-
الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل في قطاعات واسعة من المجتمع
-
الخوف من التجسس والمراقبة الرقمية
-
ضعف الثقافة التقنية لدى جزء كبير من المستخدمين
فتتحول الشائعة إلى "قصة جاهزة للتصديق"؛ لأنها تلامس مشاعر حقيقية موجودة بالفعل.
3. تضخيم الشائعة عبر تجار ومنافسين
يقوم بعض الباعة أو وكلاء العلامات المنافسة باستغلال هذه الشائعة عبر:
-
تحذير الزبائن شفهيًا:
"يا أستاذ ابعد عن الماركة دي… عليها تطبيق إسرائيلي، والناس كلها بترجعها." -
مشاركة روابط أو صور مجهولة المصدر على مجموعات فيسبوك أو تيليغرام
-
الترويج لماركات أخرى باعتبارها "آمنة" أو "وطنية" مقابل "الهاتف المتهم"
في النهاية، تتحول الشائعة إلى أداة تسويق سوداء تضرب منافسًا معيّنًا لصالح شركة أخرى.
ثالثًا: من المستفيد من هذه الشائعات؟ شركات أم أطراف أخرى؟
لا يمكن الجزم دائمًا بأن الشركة المنافسة هي من تطلق الشائعة، لكن يمكن تحديد دوائر المستفيدين:
-
منافس تجاري مباشر
وكيل أو موزع لعلامة منافسة قد يطلق أو يغذّي الشائعة ليزيد مبيعاته على حساب العلامة المتضررة. -
تجار صغار يبحثون عن البيع السريع
بعض الباعة يستغلون الخوف لدى المستهلك لدفعه لشراء نوع محدد يحقق لهم هامش ربح أعلى. -
حسابات سياسية أو دعائية
أحيانًا تُستغل قضية الهواتف والتطبيقات للترويج لخطاب سياسي أو أيديولوجي، أو لضرب شركات دول بعينها. -
صنّاع محتوى يبحثون عن المشاهدات
فيديو “فضيحة هاتف يتجسس لصالح إسرائيل” سيتلقى تفاعلاً أعلى بكثير من فيديو "مراجعة تقنية عادية"، فيميل البعض للمحتوى المثير ولو كان بلا دليل.
رابعًا: بين الحقيقة والخيال.. كيف تُستخدم كلمة "إسرائيلي" كسلاح دعائي؟
في كثير من الحالات، قد يكون التطبيق المشار إليه:
-
تطبيقًا عاديًا مبرمجًا بواسطة شركة تكنولوجيا عالمية لها مستثمرون من عدة دول
-
أو خدمة تعتمد على خوادم (سيرفرات) مستضافة في أكثر من دولة
-
أو مجرد اسم تطبيق تم تفسيره على نحو خاطئ
لكن بمجرد إلصاق كلمة "إسرائيلي" به، يتحول في وعي المستخدم البسيط إلى:
"تطبيق تجسس"
"اختراق للأمن القومي"
"تهديد للمسلمين والعرب"
فتنقلب الصورة، ويصبح الهاتف بأكمله "ملعونًا" في السوق—even إن لم يصدر أي بيان رسمي من الشركة أو من جهات تقنية موثوقة يثبت ذلك.
خامسًا: خطورة استغلال العاطفة القومية والدينية في التسويق
استخدام هذه الشائعات لا يضرب فقط شركة منافسة، بل يضر بعدة مستويات:
-
إضعاف وعي المستهلك
حين يعتاد المستخدم تصديق كل ما يُقال، يتراجع اهتمامه بالتحقق والبحث، ويضعف وعيه التقني والأمني الحقيقي. -
تشويه النقاش الجاد حول الأمن السيبراني
بدل الحديث عن:-
تحديثات الأمان
-
سياسات الخصوصية
-
حماية البيانات
يتحول كل شيء إلى:
"الهاتف الفلاني إسرائيلي… ابعد عنه!" دون أي فحص حقيقي أو أدلة فنية.
-
-
إرباك السوق وخلق حالة من الفوضى الاستهلاكية
فجأة يبتعد الناس عن ماركة معينة، فينهار سعرها في السوق المستعملة، ويتضرر مستخدمون اشتروا الهاتف بحسن نية. -
تغذية خطاب الكراهية دون وعي
بدلاً من مناقشة القضايا السياسية في إطارها الصحيح، تُختزل في "تطبيق" و"هاتف"، ما يخلق وعيًا مشوّهًا بالقضايا الكبرى.
سادسًا: هل يمكن أن توجد ثغرات حقيقية أو تطبيقات خطرة؟ نعم… لكن الطريق ليس بالشائعات

من المهم التأكيد أن:
-
كل هاتف ذكي في العالم يمكن أن يحتوي على ثغرات أو تطبيقات تتجسس أو تجمع بيانات مبالغًا فيها.
-
الخطر لا يتوقف على "إسرائيلي" أو "أمريكي" أو "صيني"، بل يتعلق بـ:
-
طبيعة الشركة
-
سياساتها
-
نوع نظام التشغيل
-
مستوى وعي المستخدم نفسه
-
لكن التعامل العلمي مع هذه المخاطر يكون عبر:
-
تقارير شركات أمن معلومات موثوقة
-
تحذيرات رسمية من جهات تنظيم الاتصالات
-
تحليلات تقنية من مختبرات أمنية متخصصة
وليس عبر “سكرين شوت” مجهول على فيسبوك أو واتساب.
سابعًا: كيف يجب أن يتعامل المستخدم العربي مع هذه الشائعات؟
1. لا تبنِ قرارك الشرائي على منشور مجهول المصدر
قبل أن تقرر مقاطعة هاتف أو ماركة:
-
ابحث عن أخبار من مواقع تقنية محترفة
-
تحقق من بيانات الشركة الرسمية
-
تابع تقارير الأمن السيبراني المعروفة عالميًا
2. ركّز على الأمان الحقيقي لا الأسماء الرنانة
بدل أن تسأل: "هل على الهاتف تطبيق إسرائيلي؟"
اسأل:
-
هل يحصل الهاتف على تحديثات أمان منتظمة؟
-
هل نظام التشغيل مُحدّث؟
-
ما الصلاحيات التي تطلبها التطبيقات الموجودة على الهاتف؟
3. لا تكن أداة مجانية في حرب الشركات
حين تشارك شائعة غير مؤكدة، قد تكون:
-
تروّج لمنتج منافس دون أن تدري
-
تساهم في نشر الذعر
-
تظلم شركة وربما آلاف الموظفين المرتبطين بها في بلدك
4. أعطِ أولوية لمصادر موثوقة
استعن بـ:
-
مواقع مراجعات عالمية
-
تقارير مؤسسات أمن معلومات
-
تصريحات هيئات تنظيم الاتصالات في بلدك
ثامنًا: مسؤولية الدولة والجهات الرقابية
ليست مسؤولية المستهلك وحده مواجهة هذه الفوضى؛ بل على:
-
وزارات الاتصالات
-
أجهزة حماية المستهلك
-
هيئات تنظيم سوق التكنولوجيا
أن تقوم بـ:
-
إصدار بيانات واضحة عند ظهور شائعات كبيرة تمس علامة منتشرة في السوق
-
إلزام الشركات بإعلان سياسات الخصوصية بوضوح وباللغة العربية
-
دعم حملات توعية حول الأمن الرقمي ومخاطر التطبيقات مجهولة المصدر
بهذا يتم الانتقال من ثقافة الخوف والشائعات إلى ثقافة الوعي والتحقق.
خاتمة: الشائعة أخطر من التطبيق نفسه أحيانًا
في صراع شركات إنتاج وبيع الهواتف المحمولة في البلدان العربية، تحولت "شائعة تطبيق إسرائيلي" إلى أداة انتخابية في سوق مفتوح؛ كل شركة أو تاجر يحاول أن يكسب "أصوات" المستهلكين عبر تخويفهم لا عبر إقناعهم.
الحل ليس في تصديق أو تكذيب كل شيء بشكل أعمى، بل في:
-
الوعي
-
البحث
-
التحقق
-
فهم أن الأمن الرقمي قضية أكبر من مجرد اسم تطبيق أو جنسية مطوّر، وأن السلاح الحقيقي بيد المستخدم الواعي، لا بيد الشائعة.

