هل تقترب لحظة الحسم؟ الجيش السوداني بين استعادة «الردّ والعدالة» وخطر التصعيد الإنساني

تتسارع الأحداث على الأرض في السودان بعد أيام من سقوط مدينة الفاشر بيد مليشيات قوات الدعم السريع، وتزايد تقارير عن جرائم جماعية وعمليات تطهير طائفي وعمليات قتل واسعة طالت المدنيين. في المقابل تتحدث مصادر محلية وعسكرية عن استعدادات مكثفة لدى الجيش الوطني لشن عملية عسكرية واسعة في مناطق دارفور وكردفان تهدف إلى استعادة المدن وطرد المليشيات، ما يطرح السؤال: هل هذه «لحظة الحسم» لوقف جرائم الدعم السريع وردع مرتكبي الانتهاكات، أم أنها قد تفتح أبوابًا أوسع للتصعيد والنكبات الإنسانية؟
ماذا نعرف حتى الآن؟
-
شهود ونشطاء وصفوا مشاهد قتل مدنيين داخل شوارع الفاشر، وإطلاق نار عشوائي واستهداف للمدنيين أثناء فرارهم، فيما رصدت منظمات حقوقية مقاطع وفيديوهات توثق عمليات إعدام واختفاء قسري.
-
مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وخبراء دوليون أعربوا عن «الصدمة» جراء تقارير عن انتهاكات واسعة تشمل القتل والاغتصاب والاعتقالات التعسفية في الفاشر، وطلبوا فتح تحقيقات فورية.
-
مكتب المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية أعلن أنه يحقّق في تقارير عن «عمليات قتل جماعية» في الفاشر وأنه يتخذ خطوات للحفاظ على الأدلة لاستخدامها في محاكمات مستقبليفي الجهة العسكرية، تحدثت تقارير محلية ودولية عن تجهيزات للجيش تشمل حشودًا من المدرعات والمدفعية وعمليات تمهيد جوي، ووسائل إعلام نقلت عن مصادر عسكرية استعداد الجيش لعملية واسعة في غرب السودان (دارفور) ومناطق كردفان.
دوافع الجيش: استعادة السيطرة أم ردّ على جرائم ضد المدنيين؟

الموقف الرسمي للقيادة العسكرية يرتكز على نقطتين رئيسيتين: استعادة وحدة الدولة وسلامة المواطنين، والردّ على ما تصفه تقارير ومشاهد ميدانية بـ«الجرائم البشعة» التي ارتكبتها عناصر من الدعم السريع. منطقًا، قد ترى القوات النظامية أن تحركًا حاسمًا على الأرض هو الوسيلة الوحيدة لوقف سلسلة الانتهاكات وحماية المدنيين الذين يتعرضون للخطر. لكن هناك فروقًا مهمة بين «الاستعادة» و«الانتقام»: الأول يتطلب عمليات عسكرية مخططة مع ضمانات لحماية المدنيين، والآخر يفتح الطريق أمام أعمال انتقامية قد تُضاعف معاناة السكان وتولّد دوامة من الانتهاكات المتبادلة.
مخاطر الحملات العسكرية الواسعة
حتى لو كان الهدف هو إنهاء سيطرة مليشيات ارتكبت جرائم، فهناك ثلاثة مخاطر ميدانية وقانونية وإنسانية حقيقية يجب أخذها بعين الاعتبار:
-
تصعيد وخطر انتقام متبادل: العمليات البرية الكبرى في مناطق مدنية مكتظة قد تسفر عن موجة نزوح جديدة وارتفاع في عدد الضحايا المدنيين.
-
التبعات الإنسانية: دارفور تعاني أساسًا من تدهور مأساوي في الوصول للمساعدات؛ أي قتال إضافي قد يغلق ممرات الإغاثة ويزيد من خطر المجاعة والنزوح القسري
-
القضايا القانونية والعدالة الانتقالية: التحركات العسكرية لا تغني عن محاسبة المسؤولين عن الجرائم. جمع الأدلة وحماية الشهود ضرورة حتى تُحال الملفات إلى محاكم مستقلة أو إلى آليات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية.
المشهد الدولي: دعم أم ضغط لوقف القتال؟

المجتمع الدولي يتفاعل بضغط مزدوج: من جهة، هناك إدانات وتنديدات رسمية بالانتهاكات في الفاشر ونداءات للتحقيق والمساءلة. من جهة أخرى، تُبدي دول إقليمية وغربية مبادرات لوقف إطلاق نار إنساني وتضغط لخلق أدوات تضمن حماية المدنيين وتوفير المساعدات. أي عملية عسكرية من دون تفاهمات دولية أو ضمانات إنسانية قد تُعقّد احتمالات وصول المساعدات وتزيد عزلة المناطق المتضررة.
سيناريوهات محتملة
-
هجوم عسكري منظم مع خطط لحماية المدنيين: إن نجح الجيش في تنفيذ عملية ميدانية محددة الأهداف مع فتح ممرات آمنة للإجلاء ووصول المساعدات الدولية، فقد يقلّص ذلك من فرص حدوث انتهاكات جديدة ويقوّي موقف الدولة لإجراء محاسبات قانونية لاحقة. لكن ذلك يتطلب تخطيطًا عالي المستوى والتنسيق مع جهات إنسانية ودولية.
-
هجوم يقود إلى نزوح واسع وانتقام متبادل: إذا خرجت العملية عن السيطرة أو شُنت من دون ضمانات إنسانية، قد تتضاعف الأزمات وتطول الحرب، مع تبعات إنسانية وقضائية معقدة.
-
حلّ سياسي متزامن مع ضغط دولي ومراجعة عسكرية محكمة: الطريق الأضمن للحد من الجرائم هو مزيج من إجراءات أمنية محددة ومحاكمات عادلة وفتح قنوات سياسية حقيقية، لكن هذا المسار يحتاج إرادة داخلية وضغط دولي متماسك.
أين العدالة؟ إنجازات محتملة أم انتقام بلا محاكم؟
العدالة الحقيقية تتطلب تحقيقات مستقلة وحيادية ومحاكمات بقرائن موثقة. الإعلان عن «حسم عسكري» لا يوازي إدانة قضائية لمسؤولين. المحكمة الجنائية الدولية والهيئات الحقوقية تعمل بالفعل على حفظ الأدلة والتوثيق، مما يتيح لاحقًا إمكانية محاسبة القادة والأفراد المتورطين في الانتهاكات. لكن هذا المسلك بطيء ويتطلب حماية الشهود ووصول فرق التحقيق.
هل هذه «لحظة الحسم»؟
الواقع أن الأرض تشير إلى تحضير عسكري ونيّة لدى الجيش لاستعادة مواقع استراتيجية وقطع ذراع مليشيات الدعم السريع بعد سلسلة أحداث دامية في الفاشر ومناطق أخرى. لكن ما إذا كانت هذه الحشود والذخائر ستترجم إلى «حسم» حقيقي يعتمد على عوامل متعددة: دقّة التخطيط العسكري، الالتزام بحماية المدنيين، قدرة المجتمع الدولي على فرض آليات حماية إنسانية، وإمكانية تحويل الانتصار الميداني إلى محاسبة قانونية عادلة بدلاً من حلّ انتقامي يزيد المأساة.
النتيجة الأهم: الحسم الحقيقي لن يُقاس بسقوط معاقل أو بطش ميداني، بل بمدى قدرتنا على وقف الانتهاكات وفصل المساءلة القانونية عن دوافع الانتقام، وضمان وصول المساعدات وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوداني. أي خيار عسكري من دون إطار إنساني وقانوني قد يولّد فوضى جديدة ويُطيل عمر المأساة.

