الصباح اليوم
بوابة الصباح اليوم

أسرار السياسة

الفساد في المحليات.. من تحذير زكريا عزمي إلى واقعة رئيس حي شرق الإسكندرية.. هل نزل الفساد إلى ما بعد الركب؟

صلاح توفيق
-

لم يكن تحذير الراحل زكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية الأسبق، حين قال عبارته الشهيرة: «الفساد في المحليات للركب»، مجرد نكتة سياسية أو توصيفًا ساخرًا، بل كان صرخة مبكرة كشفت ما يجري في الظلام داخل أروقة الأحياء ومجالس المدن، من شبكات فساد متغلغلة حولت المكاتب الحكومية إلى أسواق علنية لبيع الضمائر وتجارة النفوذ.

واليوم، وبعد مرور سنوات طويلة على تلك المقولة التي تحولت إلى شعار للواقع المؤلم، يعود الفساد المحلي ليتصدر المشهد مجددًا، لكن هذه المرة بأدلة ووقائع دامغة، أبرزها القبض على اللواء حاتم زين العابدين، رئيس حي شرق الإسكندرية، الهارب من حكم بالسجن المؤبد في قضية رشوة كبرى.

مصر: حكم نهائي ببراءة زكريا عزمي من «الكسب غير المشروع»

القبض على رئيس حي شرق.. فضائح تكشف المستور

الواقعة التي أعلنتها وزارة الداخلية مؤخرًا، لم تكن حادثة عابرة، بل زلزال إداري ضرب الثقة في الجهاز المحلي بأكمله.
فالمتهم الذي كان يقود قبل أيام من القبض عليه حملات إزالة إشغالات أمام الكاميرات، ويظهر في الصور متحدثًا عن الانضباط وحماية المال العام، كان في الواقع هاربًا من حكم قضائي ثقيل بالسجن المؤبد في قضية رشوة.

كيف وصل هذا الرجل إلى موقعه؟
وكيف تم تعيينه رغم صدور حكم غيابي بحقه؟
ومن يتحمل مسؤولية اختراق كهذا في مؤسسة يُفترض أنها واجهة الدولة أمام المواطنين؟

هذه الأسئلة ليست موجهة إلى شخص بعينه، بل إلى نظام إداري بأكمله سمح بأن يتسلل الفساد إلى قمة الحي دون أن يدق أحد ناقوس الخطر.

فساد لا يتوقف.. وثروات بلا تفسير

أخر صورة لرئيس حى شرق قبل القبض عليه

لم تعد قصص الثراء المفاجئ بين بعض مسؤولي المحليات أمراً يثير الدهشة.
فالموظف الذي يبدأ مسيرته براتب بالكاد يغطي نفقاته، يتحول خلال سنوات قليلة إلى صاحب عقارات في الساحل والتجمع، يركب السيارات الفارهة، ويمتلك أرصدة لا يعلم مصدرها أحد.

إنه الفساد الإداري المقنن، الذي يختبئ خلف التراخيص والموافقات والمكاتب المغلقة، فيتحول العمل العام إلى استثمار شخصي، والمواطن إلى زبون يدفع الثمن للحصول على حقه الطبيعي.

فمن أين جاءت هذه الأموال؟
وكيف تتحول الوظيفة العامة إلى طريق مختصر نحو الثراء؟

إنها الأسئلة المحرّمة التي يجب ألا تظل بلا إجابة.
ولا يمكن أن تستمر أجهزة الدولة في التعامل مع هذه الكارثة وكأنها فساد صغير، بينما هي في الحقيقة نزيف يومي يهدر مليارات الجنيهات من أموال الدولة والمواطنين معًا.

لو قابلك موظف فاسد».. 4 طرق لإبلاغ التنمية المحلية عن تجاوزات الأحياء -  الوطن

المقاولون يتحدثون.. والكل يعلم واصحاب المصالح يتسترون علي الجرائم

في الجيزة كما في الإسكندرية، يتداول المقاولون والمستثمرون أحاديث صريحة عن “إتاوات رسمية” تُدفع مقابل الحصول على تراخيص أو تسهيلات في المشروعات.
البعض يسميها “تسريع الإجراءات”، والآخر يسميها “معلوم”، لكنها في النهاية رشوة بأسماء جديدة.

أحد المقاولين يقول: “الفساد أصبح ممنهجًا، هناك من يتعامل مع منصبه كأنه مشروع خاص، يربح من كل توقيع وكل ختم.”
بل وصل الأمر إلى ابتزاز المستثمرين وتهديدهم بالتأخير أو التعطيل إن لم يدفعوا، بينما يُعامل المواطن العادي كأنه متسول يطلب خدمة منّةً لا حقًا.

هكذا تحوّلت بعض الأحياء من مؤسسات خدمية إلى مراكز جباية غير رسمية، تُدار بعقلية السمسار لا الموظف العام.

فساد الأحياء.. عدو التنمية الأول

حين تُقام المشروعات القومية الكبرى وتُرصد المليارات للتنمية، فإن أول عائق أمام التنفيذ هو الحي الفاسد.
فكل خطة تطوير تمر عبر تلك البوابة الملوثة بالمحسوبية والرشاوى، فتتعطل الأعمال، وتتراجع الاستثمارات، ويُصاب المواطن بالإحباط.

الفساد في المحليات أخطر من أي أزمة اقتصادية، لأنه يهدم ثقة المواطن في الدولة ويقضي على روح العدالة.
ولذلك يجب أن تُعامل هذه الظاهرة باعتبارها أمنًا قوميًّا لا إداريًا فقط.

آن الأوان لقوانين رادعة بلا استثناءات

إن مكافحة الفساد لا تتحقق بالبيانات أو التصريحات الإعلامية، بل بتفعيل حقيقي للقوانين.
ويجب أن يُطبّق قانون “من أين لك هذا؟” على كل مسؤول محلي دون استثناء، مع إقرار ذمة مالية سنوية شاملة وشفافة، تُراجع من لجنة عليا تضم الرقابة الإدارية والنيابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات.

كما يجب أن تتضمن العقوبات مصادرة الأموال المشبوهة، والمنع من العمل العام مدى الحياة لأي موظف يثبت تورطه في الرشوة أو استغلال النفوذ.
فلا يعقل أن تُدار أحياء مصر وكأنها “شركات خاصة”، يتقاضى رؤساؤها أرباحًا من الخدمات العامة.

رسالة إلى القيادة السياسية

لا شك أن الدولة المصرية تبذل جهودًا حقيقية لمكافحة الفساد، لكن المحليات تظل الثغرة الأخطر.
ففي الوقت الذي تُحارب فيه الدولة الإرهاب وتبني المدن الجديدة، يُخرب الفساد الإداري كل ما يتم بناؤه من الداخل.

إن تطهير المحليات لا يقل أهمية عن حماية الحدود.
فالوطن لا ينهار بالرصاص فقط، بل بالرشوة والسكوت عن الفاسدين.

وحين يرى المواطن أن من يسرق المال العام يُعاقب بصرامة، وأن القانون لا يفرق بين كبير وصغير، سيستعيد إيمانه بعدالة الدولة وصدق نواياها في الإصلاح.

بداية معركة حقيقية ضد الفساد المحلي

القبض على رئيس حي شرق الإسكندرية ليس النهاية، بل بداية معركة حقيقية ضد الفساد المحلي.
فالفساد في المحليات لم يعد للركب فقط، بل أوشك أن يغرق البلاد كلها إن لم يتم اجتثاث جذوره من الأساس.

المطلوب إرادة تنفيذية صارمة، وقوانين تُطبّق بلا هوادة، ومحاسبة لا تعرف الأسماء ولا المناصب.