محمود عيد يكتب : الحرب التي لم تبدأ بعد ومصير الشرق الأوسط بين نيران فوردو وأشباح الاستعمار الجديد

ما جرى حتى الآن من تبادل كثيف للضربات الصاروخية بين طهران وتل أبيب لا يمثل سوى فصل تمهيدي من رواية سياسية عسكرية معقدة لم تُفتح بعد صفحتها الأولى فالمراقبون الذين يظنون أن أعداد الضحايا وحجم الدمار هما مقياس النصر أو الهزيمة يخطئون في تقدير جوهر هذه الحرب فالحرب الحقيقية لم تُعلن بعد وهي تدور كلها حول كلمة واحدة فوردو
إعلان النصرو لن يكون إلا بتحطيم فوردو تماما ودفن مشروع إيران النووي إلى الأبد
فوردو ليست منشأة نووية تقليدية بل هي درة التاج الإيراني ملاذ تحت الجبل حوت في باطنها آلاف أجهزة الطرد المركزي وجعلت من عمق الأرض درعا حاميا لمشروع لطالما أقلق الغرب هي المنشأة التي بمقدورها إنتاج اليورانيوم المخصب بنسب تكفي لصناعة القنبلة الأولى لذلك فإن إعلان النصر من قبل العدو لن يكون إلا بتحطيم فوردو تماما ودفن مشروع إيران النووي إلى الأبد
لكن إسرائيل وحدها عاجزة عن ذلك فتقنيات القصف التقليدية عاجزة عن بلوغ أهداف مدفونة على عمق يتجاوز الثمانين مترا وتبقى الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تمتلك القنبلة الخارقة للتحصينات GBU-57 وتبقى طائرتها B2 الشبحية الوسيلة الوحيدة القادرة على حمل تلك القنبلة شريطة أن تحلق في سماء مفتوحة بدون مضادات ولا عوائق وهي مهمة لا يمكن إتمامها إلا بتمهيد جوي شامل يبدأ بتحييد الدفاعات الإيرانية بأكملها
إعداد المسرح لضربة كبرى تسعى إليها تل أبيب وتتحفظ عليها واشنطن
وهكذا فإن ما يجري على الأرض من ضربات متبادلة ما هو إلا مسرح أولي للتمهيد لضربة كبرى تسعى إليها تل أبيب وتتحفظ عليها واشنطن الضربة التي إن حدثت قد تعني تغيير شكل الإقليم بالكامل فهل تمتلك أمريكا الشجاعة السياسية لتكرار سيناريو كوريا الشمالية أم تتراجع كما فعلت عام 1994 عندما حشدت مليون جندي ولم تطلق رصاصة واحدة لأن بيونغ يانغ لوّحت وقتها بخسائر لا تحتمل
إيران اليوم تملك نفس أوراق الردع وربما أكثر قواعد أمريكية في الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي كلها تحت مرمى الصواريخ الإيرانية بل إن مضيق هرمز نفسه قد يتحول إلى فخ ناري للعالم كله حين تتوقف حركة 40 بالمئة من نفط العالم وبذلك تصبح المعركة شأنا دوليا يتجاوز الحسابات الإقليمية ويتصل مباشرة بأمن الطاقة العالمي ونظام التجارة الدولي
وإن حاولت واشنطن اجتياز الخطوط الحمراء وقررت تغيير النظام الإيراني بالقوة فإن الرد لن يكون تقليديا بل سيأتي عبر تفعيل خلايا نائمة ومجموعات فاعلة عبر الخليج والعالم العربي وربما يفتح ذلك الباب لفوضى طويلة المدى يخرج فيها المارد الإيراني من عنق الزجاجة عبر آلاف العناصر التي ستعيد إنتاج الصراع في كل اتجاه
طهران تراهن على تفاوض مؤجل يعيد ترتيب أولوياتها
لكن إيران لم تستعجل التصعيد رغم قدرتها على ذلك بل اختارت حتى الآن ساحة الأراضي المحتلة فقط ولم تستدرج الولايات المتحدة بعد وربما تراهن طهران على تفاوض مؤجل يعيد ترتيب أولوياتها وينقذ برنامجها النووي وهو ما فعلته كوريا الشمالية في تسعينات القرن الماضي حين قدمت اتفاقا خادعا لواشنطن ثم انسحبت منه بعد أن امتلكت فعليا قدرتها النووية
إلا أن طهران تعلم أن أمريكا اليوم ليست أمريكا الأمس وأن الدرس الكوري الشمالي أصبح جزءا من العقيدة الاستراتيجية في البنتاغون فلا اتفاق مؤقت ولا التزامات قابلة للمناورة بل شروط مذلة تشبه شروط معاهدة فرساي تفكيك كامل للبرنامج النووي إشراف دولي وجود قوات أممية وتفويض دائم للكيان باستهداف كل محاولة لإعادة إحياء المشروع
ترامب ذاته وضع شرطا تعجيزيا للنصر إما هزيمة شاملة عسكرية لإيران أو استسلام سياسي مطلق لا مكان فيه لمناورة أو هدنة أو تفاوض وهذا هو مكمن الخطر في الجولة المقبلة من الصراع إذ أغلق كل المخارج على طهران فباتت كمن حوصر في ركن ضيق وتُرك بلا مخرج سوى القتال حتى الرمق الأخير
المعركة بين الفوضي والسيطرة التامة
الحلم الإسرائيلي الذي ولد في مدريد عام 1991 وتمدد مع شيمون بيريز إلى رؤية شرق أوسط جديد خال من المقاومين بدأ يتلاشى بين قطاع يرفض الاستسلام وجنوب لبنان يشعل الحدود وها هي طهران تلوّح الآن بمشهد أكثر جذرية وأكثر خطورة من كل ما سبق
مشهد يضع المنطقة كلها أمام خيارين إما خضوع كامل لمنطق الهيمنة أو فوضى كاملة لا تبقي ولا تذر وإذا كانت رشقات الصواريخ الحالية توجع الكيان فماذا سيقول قادته حين تنهال على القواعد الأمريكية ومنشآت النفط الخليجية آلاف الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في مشهد من الفوضى المنظمة التي لا تملك واشنطن معها سوى الندم على دفع الخصم إلى زاوية اللاعودة
هذه حرب لم تبدأ بعد لأنها ما تزال في طور التمهيد لكن حين تبدأ لن تعود المنطقة كما كانت لا حدودها ولا نظمها ولا اقتصادها ولا حتى شعوبها فإما شرق أوسط على مقاس المشروع الصهيوني كما حلم نتنياهو أو شرق أوسط يحترق بلا سقف ولا ضوابط في أتون مواجهة ستسجل في التاريخ بوصفها نهاية نظام وولادة آخر