الكوليرا تعود لتنهش جسد السودان المنهك: حين يتآمر الوباء والجوع والحرب على بقايا وطن يلفظ أنفاسه

في زاويةٍ منسيةٍ من هذا الكوكب، حيث تتراكم الكوارث فوق الخرائب، وتتناثر الأحلام تحت أقدام البنادق، ويصير الموت مشهدًا يوميًا بلا نكهة، تعود الكوليرا إلى السودان لا كـ “وباءٍ صحي” فقط، بل كرمزٍ مرعبٍ للفشل الإنساني، وجريمةٍ جماعية مكتملة الأركان.
ففي قلب الجحيم الممتد على خارطة الحزن، حيث تتراكم أنفاس الموت فوق رماد البيوت المحترقة، وتتشكل ملامح الخراب على وجوه أطفال لا يعرفون سوى الخوف والجوع، تُطلّ الكوليرا مجددًا كضيفٍ ثقيلٍ على وطنٍ لم يعد يقوى على استقبال المزيد من الفواجع. السودان، ذلك البلد الجريح، لم يخرج بعد من طوفان الحرب الأهلية المدمرة حتى باغته طاعون العصر، ليزرع الموت في الطرقات، وينشر الرعب في المخيمات، ويكتب شهادة وفاة جماعية لعصر الإنسانية.
نحن لا نتحدث عن فيلم وثائقي عن المجاعات، ولا عن صفحة من كتاب تاريخ، بل عن واقع حيّ، ودماء طازجة، وأرواح تُزهق بلا ثمن. لقد عادت الكوليرا، تمامًا كما تعود الذئاب للجيفة. عادت لا لأنها وباء فقط، بل لأنها تجد في الخراب بيئةً مثالية، وفي صمت العالم حضنًا دافئًا، وفي تقاعس السياسة غذاءً روحيًا.
السودان، لا تفرّق الكوليرا بين جائعٍ ومحاصر، ولا بين نازحٍ ومقاتل، ولا بين طفلٍ حديث الولادة وشيخٍ يستنجد بالرحمة في مخيمٍ يفتقر حتى لماء الوضوء. في السودان، الكوليرا ليست مرضًا... بل مرآة تفضح عورات العالم، وتصرخ بأعلى الصوت: أين أنتم أيها المتفرجون؟!
هذا البلد المنكوب، الذي لم تجف دماؤه منذ عقود، لم يجد من يعينه حين سقط في مستنقع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. والآن، وهو يختنق من الجوع والشتات، تقفز الكوليرا من الظلال لتعلن بداية مرحلة جديدة من الفناء... فناء لا تسببه البنادق وحدها، بل تساهم فيه صهاريج المياه الملوثة، ومراحيض المخيمات المتصدعة، وخيام البلاستيك التي تقطنها أرواحٌ أرهقها الانتظار.
إن ما يحدث في السودان اليوم ليس مأساة محلية، بل فضيحة دولية... صرخة مدوية في وجه البشرية بأكملها، تفضح تقاعس العالم، وتكشف زيف المنظمات، وتؤكد أن الإنسان في هذا العصر لا قيمة له إن لم يكن يعيش في دولة غنية.
اليوم، ونحن في العام 2025، تسجّل الكوليرا آلاف الإصابات، وتتسلل إلى الأحياء كضبعٍ يعرف طريقه إلى الجثة. وبينما يحتفل العالم بتقنيات "الذكاء الاصطناعي" و"طب الجينات"، يموت السوداني بصمت، وهو يبحث عن قطرة ماء نظيفة، أو لقمة لا تُمزج بالطين، أو حضن لا يلفّه الرعب.
فهل أصبح السوداني وقودًا لكل نكبة؟ وهل تحوّل السودان إلى مسرحٍ عبثيٍّ يتبادل فيه الوباء والسلاح الأدوار في قتل الأبرياء؟ دعونا نكشف التفاصيل، بالأرقام والوثائق، وبصرخة ضمير.
السودان في عين العاصفة: وطن ينهار في صمت عالمي مريب:
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، يعيش السودان على وقع القصف والنزوح والانهيار.
فأرقام الموت والكوليرا تكتب مأساة السودان على أوراق الأمم المتحدة.
فمنذ نهاية عام 2023، وحتى مايو 2024، رُصد تفشي واسع للكوليرا في السودان وفق تقارير موثقة من منظمة الصحة العالمية وReliefWeb، وجاءت الأرقام كالتالي:
أكثر من 9 ملايين نازح داخلي وفقًا لتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).
أكثر من 25 مليون شخص بحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية، يمثلون أكثر من نصف السكان!
52% من المنشآت الصحية خرجت عن الخدمة بسبب الدمار أو نقص الكوادر.
16 من أصل 18 ولاية سجّلت تفشيًا لوباء الكوليرا أو حالات مشتبهة.
وفق تقرير منظمة الصحة العالمية (مايو 2024)، تم تسجيل أكثر من 6,110 إصابات مؤكدة بالكوليرا،
وأكثر من 320 حالة وفاة مؤكدة في ولايات: الجزيرة، الخرطوم، القضارف، سنار، النيل الأبيض.
نسبة الوفيات بلغت 5.2%، وهي أعلى من المعدل العالمي بمقدار ثلاثة أضعاف تقريبًا.
تم رصد تفشي الكوليرا في 16 ولاية سودانية من أصل 18، مما يجعل الوضع أقرب إلى الكارثة الوطنية.
ما يقرب من 18 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وفق تقرير برنامج الأغذية العالمي.
مخيمات النزوح تحوّلت إلى بؤر للكوليرا بسبب المياه الملوثة، وانعدام أبسط مقومات الوقاية الصحية.
أطباء بلا حدود أكدت أن أكثر من 80% من الحالات المسجلة في مراكز العلاج هي لأشخاص يعيشون في مخيمات لا تحتوي حتى على دورة مياه نظيفة
واحدة لكل 200 شخص.
تشير بيانات ReliefWeb أن ما يقارب 3 ملايين شخص معرضون بشكل مباشر للعدوى بسبب غياب الصرف الصحي، وتلوث مصادر المياه، واكتظاظ مخيمات النزوح.
هذه ليست أرقامًا عبثية، بل إشارات لنهاية وطن تُطفأ فيه الحياة تدريجيًا.
البنية التحتية المنهارة: الماء الملوث والغياب الطبي:
أدت الحرب إلى تدمير 70% من مرافق المياه في 13 ولاية، مما ترك 9 ملايين امرأة وطفل دون مياه نظيفة. في ولاية الخرطوم، تعمل 4 فقط من أصل 17 محطة معالجة مياه، بينما تعرضت محطات رئيسية في ولايات الجزيرة والنيل الأبيض والنيل الأزرق لهجمات مباشرة، مما أدى إلى انقطاع المياه والكهرباء.
أكثر من 70% من المرافق الصحية في المناطق المتأثرة بالصراع غير عاملة، مع نقص حاد في الكوادر الطبية والإمدادات. يُترك المرضى، خاصة الأطفال دون سن الخامسة، لمصيرهم في مواجهة الكوليرا دون علاج.
نزوح بلا نهاية: الهروب من الحرب إلى براثن الوباء:
عشرات الآلاف من الأسر السودانية فرت من جحيم القصف إلى الدول المجاورة، لتجد في استقبالها أوبئة أخرى ومخيمات لا ترحم:
مصر استقبلت أكثر من 500,000 لاجئ منذ بداية الحرب، والعدد في تزايد مستمر.
تشاد تستضيف أكثر من 600,000 نازح من دارفور وحدها، كثير منهم في حالة صحية حرجة.
تقارير مفوضية شؤون اللاجئين تشير إلى أن أكثر من 70% من اللاجئين يعانون من أمراض جلدية وهضمية بسبب المياه الراكدة والازدحام.
والمفارقة المؤلمة أن هؤلاء الهاربين من نيران الحرب لم يجدوا في ملاجئ النزوح غير "الكوليرا" كجائزة ترضية.
الجوع يحاصر النازحين: "نأكل الطين، ونسقي الأطفال بماء المستنقعات":
ما يحدث في السودان الآن ليس فقط وباءً، بل إبادة بطيئة.
برنامج الغذاء العالمي (WFP) حذّر من "أسوأ أزمة جوع في تاريخ السودان".
تقارير البرنامج كشفت أن 18 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينما 5 ملايين منهم يواجهون خطر المجاعة المباشرة.
في ولاية القضارف وحدها، سُجلت أكثر من 12 حالة وفاة بسبب الإسهال الشديد والجفاف الناتج عن الكوليرا خلال أسبوع واحد فقط.
في مخيم "ود مدني"، شاهد المراسلون أطفالًا يشربون من مستنقعات ملوثة بالدم والطين والبراز الحيواني.
في بعض مناطق دارفور وكردفان، يُشاهد السكان وهم ينبشون التراب بحثًا عن جذور تصلح للمضغ.
الكوليرا السياسية: حين يصبح الصمت الدولي شريكًا في الجريمة:
السودان اليوم لا يعاني من وباء فقط، بل من غياب القرار، وانعدام الضمير الدولي.
فبينما يشتعل السودان بالموت، يقف العالم متفرجًا في حالة شلل مطلقة:
خطة الاستجابة الإنسانية للسودان لعام 2024 طلبت 2.7 مليار دولار، لم يُموّل منها حتى مايو سوى 18.4% فقط.
لا وجود لأي تدخل دولي فاعل لوقف الحرب، أو تأمين مناطق طوارئ نظيفة، أو دعم جهود مكافحة الكوليرا.
بعض الدول العربية تتحدث عن "التضامن"، لكنها لم ترسل سوى بيانات إعلامية فارغة بلا أثر على الأرض.
حملات التطعيم التي بدأت في القضارف والجزيرة لا تغطي أكثر من 10% من السكان المعرضين للخطر، بسبب نقص الدعم.
الدول المجاورة تعاني هي الأخرى من الضغط: مصر، تشاد، جنوب السودان، وإثيوبيا تستقبل ملايين اللاجئين السودانيين، دون أي دعم إغاثي كافٍ.
صرخة نازح: "نموت بالكوليرا... ولا نسمع سوى طنين الذباب!"
في شهادة مأساوية نقلها فريق هيومن رايتس ووتش، قالت إحدى النساء النازحات:
"دفنت ابني بيدي... لم أجد ماءً لغسل جثته، فغطّيته بالطين... ثم جلست أنتظر دوري لأموت."
الكوليرا تقتل السوداني مرتين: مرة بالإسهال، ومرة بالإهمال.
شهادة من قلب الجحيم: "الطفل مات... ودفناه بدون ماء!"
في مخيم قرب مدينة ود مدني، نقلت وسائل إعلام عالمية شهادة امرأة مسنة قالت:
"مات حفيدي من شدة الإسهال، لم نجد ماءً لتغسيله، فدفنّاه بملابس ملطخة بالدماء... ولم أبكِ، لأن الدموع نفسها جفت من شدة العطش."
هذا ليس مشهدًا من رواية تراجيدية... هذا هو واقع السودان الآن.
ما العمل؟ الطريق إلى الإنقاذ يبدأ بالاعتراف بالجريمة:
1- إعلان السودان منطقة كارثة إنسانية دولية وفق تصنيف الأمم المتحدة.
2- فتح ممرات طبية آمنة تحت إشراف الصليب الأحمر والهلال الأحمر في المناطق المنكوبة.
3- تفعيل آليات التدخل الإنساني الطارئ من خلال مجلس الأمن الدولي.
4- توسيع نطاق حملات التطعيم بمصل الكوليرا الذي توزعه منظمة GAVI.
5- دعم البنية الصحية المحلية عبر إنشاء مراكز متنقلة للعزل والعلاج.
6- توفير محطات تنقية مياه متنقلة في كل المخيمات ومناطق النزاع.
7- وقف الحرب فورًا عبر ضغوط سياسية دولية صارمة على طرفي النزاع.
المجتمع الدولي: تواطؤ بالصمت أم عجز في إنقاذ الإنسان؟
رغم إطلاق أكثر من 12 نداءً إنسانيًا دوليًا، لم تُموّل
سوى 18% فقط من إجمالي الاحتياجات المطلوبة، بحسب الأمم المتحدة.
العالم اليوم يتحدث عن "أوكرانيا، غزة، تايوان..." وينسى أن في السودان أرواحًا تتساقط كل دقيقة، لا تملك منصة إعلام، ولا لوبيات ضغط، ولا نفط يغري بالاهتمام.
النداء الأخير: هل من ضمير عالمي يتبقى لإنقاذ ما تبقّى من السودان؟
إنّ ما يحدث في السودان ليس كارثة صحية فقط، بل جريمة سياسية، واقتصادية، وإنسانية.
إنّ الكوليرا ليست هي القاتل الوحيد، بل الحرب، وسوء الإدارة، والتقاعس الدولي، وموت الضمير العربي والأممي.
أيها العالم... الصمت والحرب والطمع والنسيان... قتلوا أطفال السودان في أحضان أمهاتهم النازحين:
أيها العالم، حين يموت طفل سوداني في حضن أمّ نازحة، وهو يبكي من الألم والعطش، لا تسألوه عن سبب وفاته...
قولوا فقط:
قتله الصمت، وقتلته الحرب، وقتله الطمع، وقتله النسيان.
يا كلّ من يملك قلمًا أو منبرًا أو قرارًا،
انهضوا قبل أن يغرق السودان في بحر من الكوليرا، والدم، والخذلان...
فهذا الوطن العظيم لا يستحق أن يُدفن حيًا تحت رماد الكارثة.
إن السودان اليوم لا يحتاج إلى بيانات تضامن باردة، ولا تغريدات تنعي أرواحًا لا تعرفها. السودان يحتاج إلى ضمير عالمي يُدرك أن حياة طفل في "ود مدني" لا تقل قدسية عن حياة طفل في باريس أو نيويورك.
حين تبكي أمٌّ سودانية على جثة ابنها الذي مات بالكوليرا لأن أحدًا لم يُرسل مضادًا حيويًا في الوقت المناسب، فالعالم بأسره يكون قد خسر إنسانيته.
السودان لا يُقتل بالكوليرا فقط، بل يُذبح بصمت منظمات حقوق الإنسان، بتخاذل الدول الكبرى، وبتقاعس الأشقاء العرب، وبتواطؤ التاريخ.
ما يحدث في السودان الآن هو مذبحة معلنة لكرامة الإنسان، ليست فقط من فعل المرض، بل من توقيع الصمت الدولي. لم تكن الكوليرا لتعود بهذا الجنون لولا أن هناك من سمح لها، ولولا أن هناك من اختار أن يتجاهل، ولولا أن الإنسانية تُنتزع ببطءٍ من ضمائر القادة والمنظمات على حد سواء.
يا من تقرؤون... السودان لا يحتاج الآن إلى مزيد من الحزن، بل إلى ثورة ضمير، وغضب إنساني، ونفير أخلاقي.
فإن ماتت أجساد الأطفال بالكوليرا، فلا تسمحوا بموت أرواحهم في صمت العالم.
وإن سقطت مدن السودان واحدة تلو الأخرى، فلا تسقط إنسانيتنا معها.
ولعل أكثر ما نحتاجه اليوم ليس فقط حملات التطعيم أو شحنات الغذاء، بل صحوة ضمير تهز العروش، وتُعيد رسم الخريطة البشرية بمعايير العدالة والرحمة والكرامة.
السودان لا يحتضر... السودان يُجلد بلا رحمة في ساحة الغياب.
"السودان لا يموت، بل يُبعث من وجعه... فقط إن وجد قلبًا يدقّ من أجله."
السودان لا يطلب شيئًا أكثر من أن يكون له الحق في الحياة، في شربة ماء، في بيت دون وباء، في مستقبل لا تكتبه الكوليرا ولا تمزقه الحرب.
فمن ينهض ليمسح عن جبينه دماء الكوليرا، ويعيد إليه وجه الوطن؟
فهل يسمع العالم هذه المرة؟
أم أن الصمت سيبقى سيد الموقف حتى تُطفأ آخر شمعة في قلب إفريقيا؟