الصباح اليوم
بوابة الصباح اليوم

أسرار السياسة

محمد مرزوق يكتب : النكبة المستمرة: تهويد فلسطين وتهجير أهلها... جريمة العصر على مرأى ومسمع العالم

الكاتب  والباحث في الإسلام السياسي
-

عندما تصرخ الأرض ولا يسمعها أحد:-

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتشابك المصالح، يقف الشعب الفلسطيني وحيدًا في مواجهة آلة تهويدية لا تعرف الرحمة، مدعومةً بصمتٍ دوليٍّ مريب وتواطؤٍ عربيٍّ مخزٍ. منذ النكبة الأولى عام
1948 وحتى يومنا هذا، لم تتوقف محاولات الاحتلال الإسرائيلي لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، مستخدمًا كافة الوسائل الممكنة، من الاستيطان إلى التهجير القسري، ومن الحصار إلى القتل الممنهج. واليوم، نشهد فصلًا جديدًا من هذه المأساة المستمرة، حيث يُسلب الفلسطينيون أرضهم وحقوقهم، بينما يكتفي العالم بالمشاهدة، بل وأحيانًا بالمشاركة في الجريمة.

ففي زمن الانكسار الجماعي للضمائر، وفي عصرٍ باتت فيه الجرائم تُرتكب على الهواء مباشرة، لا يبدو غريبًا أن تُقتلع شعوب من أرضها، ويُجتث التاريخ من جذوره، وتُزوَّر الجغرافيا بقوة السلاح والدولار والدعاية الغربية لم تعد القضية الفلسطينية مجرد صراع على أرض، بل باتت معركة وجود وهوية، تُخاض بين شعبٍ أعزل يملك الإرادة والإيمان، واحتلالٍ مدجج بالسلاح والدعم الغربي، يحلم بإبادة الذاكرة قبل أن يهدم الحجر. فهل ينجح الاحتلال الإسرائيلي في تهجير الفلسطينيين قسرًا من أرضهم؟ وهل تهويد كامل التراب الفلسطيني أصبح مشروعًا دوليًا بصيغة "أمر واقع"؟

مشروع التهجير القسري... المخطط القديم الذي لم ينتهِ:

لم يكن التهجير القسري للفلسطينيين وليد اللحظة أو نتيجة لظروف استثنائية. بل هو مشروع ممنهج، بدأ بوضوح منذ ما قبل إعلان قيام ما يسمى "دولة إسرائيل" في 1948. وثائق الأرشيف البريطاني تشير بوضوح إلى أن العصابات الصهيونية مثل "الهاجاناه" و"شتيرن" و"إرغون" نفذت أكثر من 531 عملية تطهير عرقي ضد القرى والمدن الفلسطينية، أدت إلى تهجير أكثر من 750,000 فلسطيني قسرًا من ديارهم، وهي أكبر عملية تهجير منظم في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية.

اليوم، يُعاد نفس المشهد لكن بصيغ أشد قسوة، حيث يتعرض الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية والقدس إلى حرب إبادة جماعية وتهجير قسري واضح المعالم، تحت غطاء محاربة "الإرهاب" و"تجفيف منابع المقاومة".

أدوات التهجير... من القصف إلى الحصار فالتجويع والاعتقال:-

يعتمد الاحتلال الإسرائيلي على أدوات متعددة لفرض التهجير القسري، منها:

القصف العشوائي الممنهج على المناطق السكنية في غزة، والذي أدى إلى تدمير أكثر من 70% من البنية التحتية للقطاع، وفق تقارير الأمم المتحدة.

سياسة الحصار الشامل التي تمنع الغذاء والدواء والكهرباء والماء، والتي صنفها خبراء القانون الدولي كجريمة ضد الإنسانية.

التهديد المستمر بالاجتياح البري كما يحدث في رفح الآن، وهي سياسة تهدف لإجبار السكان على النزوح من مدنهم وقراهم.

الاستيطان المتسارع في الضفة الغربية، حيث زاد عدد المستوطنات بنسبة 43% منذ عام 2000، مع طرد عشرات آلاف الفلسطينيين من أراضيهم.

الاعتقالات الجماعية التعسفية التي تطال النساء والأطفال والشيوخ، ضمن استراتيجية ترويع وتفكيك البنية الاجتماعية.

الاستيطان: سرطان ينهش جسد الضفة الغربية:-

في عام 2024، شهدت الضفة الغربية تصعيدًا غير مسبوق في النشاط الاستيطاني الإسرائيلي. فقد تم إنشاء 59 بؤرة استيطانية جديدة، معظمها بؤر زراعية تهدف إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية وتهجير سكانها. ولأول مرة منذ اتفاقية أوسلو، تم إنشاء 8 بؤر استيطانية في المنطقة "ب"، مما يمثل تحديًا صارخًا للسلطة الفلسطينية. كما تم شق أكثر من 114 كيلومترًا من الطرق الجديدة لخدمة هذه المستوطنات، ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم.

التهجير القسري: نكبة جديدة في القرن الحادي والعشرين:

منذ بداية عام 2025، شهدت الضفة الغربية أكبر عملية تهجير قسري منذ عام 1967، حيث تم تهجير أكثر من 40,000 فلسطيني من منازلهم، خاصة في شمال الضفة الغربية. وقد أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى تدمير المخيمات والبنية التحتية، مما جعل الحياة فيها مستحيلة. وتشير التقارير إلى أن هذه العمليات تمت دون أوامر قضائية، مما يثير تساؤلات حول شرعيتها.

غزة: جريمة إنسانية في ظل صمت دولي:

منذ الهجوم الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، قُتل أكثر من 53,000 فلسطيني، وأُجبر معظم سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة على النزوح من منازلهم. وتشير التقارير إلى أن إسرائيل تسعى إلى إنشاء مناطق عازلة على طول الحدود، مما يعني تهجيرًا دائمًا للسكان. وقد وصفت منظمات حقوق الإنسان هذه الأفعال بأنها جرائم ضد الإنسانية.

الدعم الغربي... الجريمة بالشراكة الكاملة:

لا يمكن فهم جرأة الاحتلال في تنفيذ مشروع التهجير دون إدراك حجم الدعم الغربي اللامحدود له. فمنذ 1948 وحتى اليوم، تلقت إسرائيل أكثر من 150 مليار دولار من الولايات المتحدة وحدها، بين مساعدات عسكرية واقتصادية. وتؤمن دول الاتحاد الأوروبي الغطاء السياسي، بينما تتولى وسائل الإعلام الغربية مهمة التبرير والتزييف.

أمريكا قدمت في عام 2023 فقط، أكثر من 14 مليار دولار لدعم العمليات العسكرية الإسرائيلية.

بريطانيا تواصل تصدير الأسلحة، رغم إدانات المنظمات الحقوقية.

فرنسا وألمانيا تتحركان فقط عندما تتعرض إسرائيل لهجمات، متجاهلتين الجرائم المستمرة ضد الفلسطينيين.

العالم العربي: من الصمتٌ الي التواطؤ؟!!!

في الوقت الذي تتصاعد فيه الجرائم الإسرائيلية، يلتزم العالم العربي بصمتٍ مطبق، بل ويشهد تطبيعًا متسارعًا مع إسرائيل. فقد شهدت السنوات الأخيرة توقيع اتفاقيات تطبيع مع عدة دول عربية، مما أعطى إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار في سياساتها العدوانية دون خوف من رد فعل عربي. ويبدو أن القضية الفلسطينية لم تعد على رأس أولويات الأنظمة العربية، التي تفضل مصالحها الضيقة على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.

فالعديد من المحللين السياسيين تساؤلوا عن الموقف العربي، هل حياد قاتل أو تواطؤ فاضح؟!

فالصمت العربي لم يعد مجرد خيانة، بل أصبح شكلًا من أشكال الشراكة. دول عربية طبّعت مع الاحتلال، وفتحت له الأجواء والاتصالات، بل إن بعضها يدعو إلى "حلول واقعية" تتضمن التنازل عن الأرض أو قبول الحكم الذاتي الناقص.

في المقابل، يُعاني الفلسطيني من فقدان الغطاء العربي، وغياب أي دعم حقيقي في ظل الانشغال بالصراعات الداخلية وتقديم المصالح السياسية والاقتصادية على القيم والمبادئ.


المجتمع الدولي: إدانات بلا أفعال:

رغم الإدانات الدولية المتكررة للسياسات الإسرائيلية، إلا أن هذه الإدانات لم تُترجم إلى أفعال حقيقية. فقد وصفت الأمم المتحدة التوسع الاستيطاني بأنه جريمة حرب، ودعت إلى وقف فوري لهذه الأنشطة. لكن إسرائيل لم تواجه أي عقوبات حقيقية، مما يشجعها على الاستمرار في سياساتها العدوانية.

السيناريوهات المستقبلية... هل تنجح إسرائيل؟

بالنظر إلى الواقع، فإن الاحتلال يحقق تقدمًا على الأرض في مشروعه:

في القدس، أكثر من 80% من سكان البلدة القديمة أصبحوا مهددين بالإخلاء.

في الضفة الغربية، تم ضم أكثر من 60% من الأراضي فعليًا من خلال الاستيطان.

في غزة، أكثر من 1.7 مليون فلسطيني نزحوا من منازلهم في أقل من عام واحد.


لكن الرهان الإسرائيلي يواجه مقاومة فلسطينية صلبة، سواء المسلحة أو الشعبية، كما أن الرأي العام العالمي بدأ يتحول تدريجيًا، مع تزايد المظاهرات في الجامعات والمدن الكبرى، من نيويورك إلى لندن وروما.

هل تهويد فلسطين أصبح سياسة معترف بها عالميًا؟

يبدو أن المجتمع الدولي يتجه نحو غض الطرف لا الاعتراف. فالدول الكبرى لا تدين التهويد إلا في خطابات جوفاء، بينما المؤسسات الدولية أصبحت رهينة للفيتو الأمريكي.

الأمم المتحدة أصدرت أكثر من 70 قرارًا بشأن القضية الفلسطينية، لم يُنفذ منها قرار واحد.

محكمة العدل الدولية أدانت الجدار العازل عام 2004، لكنه لا يزال قائمًا.

الجنائية الدولية فشلت حتى اليوم في فتح تحقيق جاد في جرائم الحرب.

إعلام العالمي... سلاح في يد المحتل أم ضمير الإنسانية؟

في ظل سطوة الإعلام الغربي، تمكّن الاحتلال من قلب الصورة، فأصبح المعتدي هو الضحية، والمُعتدى عليه هو الإرهابي. إلا أن هذا الإعلام بدأ يتصدع بفعل مقاومة إعلامية بديلة، قادها صحفيون فلسطينيون دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة. ووفق تقرير لجنة حماية الصحفيين، فقد استُشهد أكثر من 120 صحفيًا فلسطينيًا منذ بداية العدوان على غزة في أكتوبر 2023، وهو رقم غير مسبوق عالميًا.

في المقابل، فإن شبكات التواصل الاجتماعي تحولت إلى منابر مضادة، ووسيلة لإيصال صوت المظلوم، رغم محاولات القمع الرقمي والمنع والحظر.

ماذا بعد؟ الرهان الأخير على الوعي والضمير:

إذا كانت الأنظمة السياسية قد باعت القضية، وإذا كان المجتمع الدولي قد صمّ آذانه، فإن الرهان الأخير يبقى على الشعوب، على الوعي، على المقاومة التي لا تموت، وعلى الضمير الإنساني الذي لا يمكن قمعه إلى الأبد.

إن تهجير الفلسطينيين من أرضهم ليس نهاية الحكاية، بل هو بداية مرحلة جديدة من الصراع، عنوانها: الوجود أو الفناء، الحق أو الزوال. فإما أن نكون مع فلسطين بوعي وكلمة وموقف، أو نتركها تُغتصب ونحن نرفع شعار "اللهم إني قد بلغت".

فلسطين بين المطرقة والسندان:

في ظل هذا الواقع المرير، يقف الشعب الفلسطيني بين مطرقة الاحتلال وسندان الصمت الدولي. لكن التاريخ علمنا أن الشعوب لا تموت، وأن الحق لا يُنسى. ورغم كل المحاولات لطمس الهوية الفلسطينية، فإنها ستظل حية في قلوب أبنائها، وفي ضمائر الأحرار في كل مكان. فلسطين ليست مجرد أرض، بل هي قضية، وكرامة، وحق لا يسقط بالتقادم.

إن السؤال الذي يفرض نفسه ليس: "هل ستنجح إسرائيل في تهجير الفلسطينيين قسرًا؟" بل: "هل نحن، كعرب وكمجتمع دولي، نسمح بحدوث ذلك؟". فالمعركة لم تعد فقط على الأرض، بل في الضمير والوجدان. وأمام جرافات الاحتلال وطائراته وصواريخه، تقف كلمات الحق عارية، لكنها لا تزال تصرخ: فلسطين ليست للبيع، والقدس ليست للتفاوض، واللاجئون سيعودون مهما طال الزمن.

ستُهدم البيوت، لكن الروح باقية. ستُقتل الأجساد، لكن الذاكرة لا تموت. وستُحاصر غزة، لكن الأمل لا يُحاصر. فالتاريخ لا يُكتب فقط بالدبابات، بل يُكتب أيضًا بالمقاومة، بالكلمة، بالصمود، وبالدم الذي يسقي التراب...